ثلاثة من الشمال
"وقت المصائب الكويتي والبدون واحد. تعالوا قاتلوا من أجل وطنكم، وعندما تنقشع الغمة، يبصقون علينا، أنتم دخلاء، أنتم مزورون"، عن شخصية في رواية خالد تركي (ثلاثة من الشمال).ليسمح لي القارئ أن أستعير من أجل هذا المقال عبارة من "المسطر"، على لسان إحدى الشخصيات. "الأقدار مرهونة بالصدف المحضة. الذين استسلموا لأقدارهم هم أولئك الذين تركوا فرصهم تمر دون أن ينتبهوا لها. عليهم ألا يتهموا أحداً سوى أياديهم التي ألقت بمفاتيح أغلالهم في البحر". هذه رواية أولى لكاتب شاب من البدون، سأعتبره من الجيل الثاني أدبياً، وأعتقد أننا أمام جيل يحمل همَّ قضيته، وسيتبعه جيل وأجيال يكتبون للأدب أولا، وللتاريخ ثانيا. ليس كما يظن البعض لعدم قدرته الأدبية على الخروج من قلق الهوية، إنما إخلاصا لقضيته، ولو في عمل أو أكثر. ما يحدث هنا هو ما حدث لأدباء القضية الفلسطينية مثلا، التي مثَّلها الشعر عند ازدهار الشعر، وتمثلها الرواية اليوم عند نمو الجنس الروائي، ويحدث كذلك للرواية السورية.
وبالتأكيد ستفشل الرواية التي تفتقد موهبة الحكي وتدفق اللغة وخيال الكاتب، لكنها هنا حققت مجتمعة لهذا النص نجاحه. هذا نصٌّ أول لشاب في أوائل العشرينيات من العمر، بدا فيه مقتدرا واثقا من عمله ومن قدرته الفائقة على الإمساك بخيوط الحكاية. أثث الروائي المكان في بداية الرواية "كانت تيماء أو الشعبيات في رواية أخرى، منطقة الفقراء، شياطين الشعر فيها بعدد سكانها... تتخالط فيها الأحياء الغنية بالفقيرة، وتجاور قصورها الشاهقة بيوت الصفيح الأبيض لا يفصل بين بؤسها وغناها سوى شارع واحد". هذه المشهدية التي تذكرنا بالصورة الشهيرة عن تيماء للمصور المبدع بلال الفضلي أحد أبنائها. بعد تأثيث المكان وتفاصيله وعلاقة سكانه به، تم تشكيل الشخصيات، معتمدا على حالاتها النفسية تحت ضغط غياب الهوية ومعاناة العيش. أكثر هذه الشخصيات تأثيرا شخصية سعود، شقيق فارس، الشخصية المحورية في العمل. سعود شخصية لم تمارس الحياة في الرواية إلا عن طريق فارس الشقيق. سعود الذي التحق بـ"داعش" كان يوحي لنا في مطلع الرواية بأنه شخص متشدد ومؤمن بفكرة "داعش"، وحين عثر فارس على مذكراته اكتشف أنه مثقف شيوعي يخفي الكتب الحمراء في سرداب مستأجر مع رفاق له، لأغراض منافية للأخلاق. سعود رحل لـ"داعش"، ليس إيمانا بالفكرة، إنما بحثا عن الموت. "سألني أبونصار، من أنت وماذا تريد؟ أجبته بلا مواربة، أنني أريد الجهاد، سألني، تريد نصرة الدين وإقامة الخلافة؟ أجبته بأنني أريد الموت فحسب".هذا اليأس الذي دفعه لاختيار قدره بهذه الجرأة أوقف فارس عاجزا مترددا عن اتخاذ طريق الخلاص. لم يؤمن تماما بفكرة نهب ممتلكات اللجان الخيرية، لكنه نفذها، وحين حاول الآخرون إقناعه بمغادرة البلاد، والتي رتبوها مع شرطي فاسد، توقف في منتصف الطريق، وطلب أن يعود إلى بؤسه ويعيشه حتى النهاية. فارس أحد كثيرين رفضوا فرص الخلاص، وتوقفوا في منتصف الطريق. رفض كل شيء، ورمى مفاتيح أغلاله الذي جلس على شاطئه وهو يردد: "ربّ أنت تعلم كم خسرتها (حبيبته مريم التي رفضها)، وخسرت كل شيء، والدي، فرصتي الأخيرة في الرحيل، وطني الذي لم أربحه يوما، خسرت ذاتي وروحي".تنوَّعت شخصيات الرواية، كما يرى أرسطو، بنماذج بعضها أكبر من قدرة الناس والبيئة المحيطة بها، كمرزوق وسعود، وأخرى قدرتها لا تفوق قدرة بقية الناس وكانت واحدة منا كفارس. وربما كل شخصية تحتاج إلى دراسة نفسية مستقلة لا يفيها المقال حقها.خالد تركي، هنيئا لنا بك، ولا تعليق أكثر!