أغلى من الولد... ولد الولد
ما معنى أن تكون جداً، وأن يكون لك حفيد يقلب مفاهيمك كلها؟!يغيِّر رؤيتك بكل ما طبَّقته على أولادك من أساسيات التربية والتعليم التي كنت تحفظها، والتي توارثتها ممن سبقوك، وتجد نفسك لأول مرة معزولا من سلاحك وكل التوجهات والإرشادات والقوانين التي طبقتها على أولادك بالسابق، قد تناسيتها أو محوتها، لأجل خاطر العفريت الصغير المقتحم لحياتك والمحطم لقوانينك ولتعاليمك والمفاهيم المتوارثة كلها، ليعيد ترتيب أولوياتك من جديد.حينما كنت أسمع جُملة "أغلى من الولد... ولد الولد"، والمعني بالجملة السابقة الإناث والذكور، كنت استنكرها، أو لا أميل إلى تصديقها، فمن يجرؤ على أن يسرق من قلوب الآباء والأمهات حب فلذات أكبادهم؟
لا يوجد أحدٌ بالكون يستطيع القيام بهذا الفعل، بتحويل أو تبديل أو تغيير بوصلة المشاعر تجاه الأبناء بأي شكل كان. فحب الأبناء قدر وطريق طويل المشي فيه بلا نهاية، فمن أول خطوة سير، عند أول صرخة قدوم للدنيا، تتحوَّل بوصلة المشاعر جلها تجاه هذا القادم المسيطر والمالك والمهيمن على كل عواطف والديه ومشاعرهم، لتصبح حياته ووجوده وكيانه على رأس الأولويات.إذن، كيف بإمكان الحفيد أن يحتل الدور الأول، ويعتلي عرش محبة من جاؤوا به؟ سألت أقاربي ومعارفي ممن لهم أحفاد عن مدى صدق هذه الجُملة وصحتها، وهل بالفعل أحفادهم باتت محبتهم أغلى من أولادهم؟اختلفت الإجابات، فبعضهم أكد صحة المقولة، مشيرين إلى أن معزة أحفادهم تتفوق على معزتهم لأبنائهم، والبعض الآخر قال إن محبتهم لأبنائهم أكبر من محبتهم لأحفادهم، وأمام هذا التباين لم أجد يقيناً، حتى جاء إلى الدنيا حفيدي، الذي أستطيع أن أقيس مشاعري على ميزانه، وأقدِّر الفرق والمسافة بالعاطفة ما بينه وبين والده، أي ابني.أستطيع الآن أن أحدد بوضوح تام معنى جُملة "أغلى من الولد... ولد الولد"، التي ليس المعنى منها هو تقييم حجم المشاعر تجاه الولد أو ولد الولد، لأنه لا أظن أن المقصود منها هو قياس حجم كتلة الحب، بل ما يأتي به من تغيرات وتحولات كبيرة تهز وتقلب حياة الآباء والأمهات حينما يتحولون إلى جد أو جدة عند وصول أول حفيد لهم، والانقلاب الذي يحدثه وصوله بحياتهم. الحفيد أو الحفيدة هما نقطتا التحول بحياة الأجداد، بكل نواحي حياتهم الهادئة والمستقرة الخالية نوعا ما من مسؤوليات التدريس وتربية الأبناء وتعليمهم والقلق والخوف عليهم. عندما يكبر الأبناء يصبحون أصدقاء لآباهم أكثر من كونهم أبناء تحت رعايتهم، ومن هنا عندما يأتي الحفيد يُعيد مشاعر الأبوة والأمومة من جديد لهم، وبالتالي يحتل الحفيد ويسرق دور الابن، ويصبح هو محور الاهتمام والرعاية والتدليل والحنان، ويبدو كأنه بات أعز من الولد، لأنه أخذ كل ما كان يخص من دور سابق لأبويه، وهذا في الحقيقة لا يعني برأيي أنه بات أغلى ممن أنجبه، لأن معيار القياس ومفهومه ليس صحيحا، فالحفيد أخذ الاهتمام السابق الذي كان يُعطى لوالده عندما كان صغيرا وبحاجة لهذا الدور.وعلى هذا تصبح معزة الابن ومحبته أكيد أغلى من محبة الحفيد، فالابن نتاج نسيجي خاص بي، مقتطع مباشرة مني، لا يمكن فصل جيناتي عن جيناته، ولا نسيجي عن نسيجه، لكن غلاوة الحفيد لا تقل عن الابن، لكنها لا تتفوق عليه.الحفيد هو بهجة الدنيا بكل ما تأتي به من فرح وإحياء للطفولة والعودة إلى زمن مفتقد غاب عندما كبر الأبناء وباتت لهم مسؤولياتهم وحياتهم التي يؤسسونها وحدهم.الأحفاد يأتون في الوقت المناسب عندما تخلو البيوت من أصوات الزقزقة واللعب، ويعلوها الوقار والصمت والانتظار لزيارات الأبناء، يأتي الأحفاد ليبذروا زهور البهجة بالحياة العاطفية والنفسية والعقلية لأجدادهم.هذا الفرح المسمى بالحفيد كم هو جميل وممتع لحظات تأمله ومراقبته وتفحصه، هذا المخلوق الصغير الذي ينمو تحت عيني يوما بعد يوم، وأنا أتابع حركاته وتغيراته، وأملك الوقت الكافي لتأمله من أصابعه الصغيرة إلى بقية تفاصيله، بهدوء ومن دون ضغوط مسؤولية الرعاية والتربية، أتمتع بصحبته في حين مسؤولياته لا تقع عليَّ.