حول ظاهرة التفاخر بالهويات الثانوية
القضاء على ظاهرة التعصب القبليّ والطائفي والعنصري لا يتحقق بالكلام الإنشائي المرسل والأغاني الفارغة المعنى حول دولة المؤسسات والقانون والوحدة الوطنية التي لا يلمس الناس وجودها على أرض الواقع، بل بنهج سياسي جديد يقوم على قاعدة المشاركة الديمقراطية الواسعة في صنع سياسات دولة المواطنة الدستورية.
ظاهرة التعصب القبليّ والطائفي والعنصري أو أي أمراض اجتماعية أخرى لا تُخلق من فراغ ولا تسقط من السماء، فهي نتائج نهج سياسي وسياسات عامة غير عادلة ينتج عنهما ضعف الدولة؛ فتفشل في القيام بوظائفها الاجتماعية-الاقتصادية، وفي مقدمتها توفير الأمن الاجتماعي وحماية حقوق الناس وسيادة القانون، وعندئذ يعود الناس للتمسك بهوياتهم الثانوية (القبيلة والطائفة والعائلة) التي كانت سائدة قبل قيام الدولة الحديثة، وذلك طلباً للحماية وحفظاً للحقوق.بعبارات أخرى عندما تنحاز مؤسسات الدولة بشكل سافر نتيجة احتكار القِلة للسُلطة والثروة، وتغيب العدالة ومبدأ تكافؤ الفرص فإن الناس يشعرون بالغبن والظلم الاجتماعي فيتعصبون، نتيجة ضعف الوعي، لهوياتهم الفرعية ويتفاخرون بها بشكل مبالغ لعلها تحميهم من جور السُلطة وظُلمها، مع أن المفترض أنهم يتحدون جميعاً كمواطنين بصرف النظر عن هوياتهم الثانوية ثم يطالبون بدولة المواطنة وسيادة القانون التي تحميهم جميعاً وتحفظ حقوقهم المتساوية.
كما يحصل التفاخر بالهويات الثانوية أيضاً عندما تعمل قوى مُتنفّذة داخل النظام السياسي على تفتيت النسيج الاجتماعي من أجل سيادتها المؤقتة غير عابئة بالنتائج المُدمرة لعملية خلخلة النسيج الوطني. والعكس صحيح تماماً، فعندما تكون الدولة قوية وعادلة وتقوم بوظائفها الاجتماعية-الاقتصادية من دون تفرقة بين المواطنين باعتبارهم مواطنين دستوريين متساوين في الحقوق والواجبات، تندمج الهويات الثانوية كافة ضمن الهوية الوطنية الجامعة، إذ لا يحتاج المواطن، في هذه الحالة، إلى انتماءاته الاجتماعية السابقة كي يحصل على حقوقه المشروعة. وكما ذكرنا من قبل فإن التنوع العرقي والتعدد الثقافي يعتبران مصدر غنى وإثراء للدولة والمجتمع، وجميع دول العالم لديها مكونات اجتماعية متنوعة، إذ لا توجد دولة واحدة في العالم جميع مواطنيها من عرق واحد ولون واحد وجنس واحد وطائفة أو مذهب واحد ولهجة (وأحياناً لغة) واحدة، ولكن الدول الناجحة تعمل على دمجها في مكون وطني واحد ضمن هوية وطنية جامعة بحقوق متساوية، فلا يعود الناس في حاجة إلى هوياتهم الثانوية في الحياة العامة.ومن أسف أن ظاهرة التعصب للهويات الثانوية (القبيلة والطائفة والعائلة) والتفاخر بها على حساب الهوية الوطنية الجامعة قد ازدادت بشكل لافت في مجتمعنا خلال العقود الأخيرة، وذلك نتيجة لنهج النظام السياسي وسياساته العامة. والقضاء عليها لا يتحقق بالكلام الإنشائي المرسل والأغاني الفارغة المعنى حول دولة المؤسسات والقانون والوحدة الوطنية التي لا يلمس الناس وجودها على أرض الواقع، بل بنهج سياسي جديد يقوم على قاعدة المشاركة الديمقراطية الواسعة في صنع سياسات دولة المواطنة الدستورية التي يتساوى أمامها المواطنون كافة، ويسود فيها القانون وتتحقق العدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان.