وثيقة «استدامة» لا ترقى لمواجهة مخاطر الاستدانة
• لا يمكن التعويل عليها كإجراء دفاعي إذا استمر تراجع أسعار النفط ونمو الإنفاق
• محدودية المهنية الحكومية في إعدادها قابلها ضعف نيابي في المناقشة
في وقت تتوسع الكويت في التوجه إلى أسواق الديون العالمية، من خلال رفع سقف "الديون السيادية" إلى 25 مليار دينار، ومد فترة الاقتراض إلى 30 عاماً، تأتي وثيقة استدامة، التي كان يفترض فيها أن تتضمن خططاً دفاعية لمواجهة أي تراجع مستمر في سوق النفط، فضلاً عن نمو الإنفاق.
عرضت الحكومة في مجلس الأمة الأسبوع الماضي نسختها الجديدة من وثيقة الإصلاح الاقتصادي والمالي تحت مسمى "استدامة"، مشمولة بتحقيق 4 محاور أساسية بحلول عام 2021، وهي "استدامة المالية العامة، وتنمية وتطوير سوق العمل، ودعم نمو القطاع الخاص، وتحسين الخدمات الحكومية لقطاع الأعمال".وعلى الرغم من عدم إعلان الوثيقة بشكل نهائي للجمهور، والاكتفاء بما استعرضه الوزراء أمام النواب، ربما للربكة التي شهدت إعدادها وعدم الانتهاء منها حتى قبل ساعات من مناقشتها في المجلس، فإنها عند مقارنتها بالنسخة الأولى (وهي وثيقة الاصلاح الاقتصادي والمالي الصادرة في مارس 2016) نجد أنها يغلب عليها العموميات بلا برامج تنفيذية واضحة، فضلاً عن الرغبة الواضحة في الابتعاد عن أي صدام سياسي او شعبي، مما دعاها الى التخلي عن سياسات كانت معدة للتطبيق متوسط المدى في وثيقة الإصلاح السابقة، كضريبتي الاعمال والقيمة المضافة، إضافة إلى انخفاض وتيرة الترويج لمشاريع الخصخصة من طرح برامج لتخصيص بعض الخدمات الأساسية، حتى التعليم والصحة وبعض الأصول النفطية، إلى الحديث عن وضع برنامج زمني للتأهيل والخصخصة في وثيقة استدامة.
سلوك أصيل
ورغم أن وثيقة الإصلاح المالي والاقتصادي بنسختها الاولى شابتها محاذير وملاحظات عديدة في معظم برامجها، وقصور في العديد من الأهداف، وانحياز ضد المجتمع، فإنها أكثر مهنية ووضوحا مما أعلن في وثيقة "استدامة"، وهذا سلوك بات أصيلا في معظم الخطط الحكومية؛ منذ لجنة اصلاح المسار الاقتصادي المشكّلة عام 2000، إلى خطتي التنمية الأولى والثانية، مرورا بتقارير المجلس الأعلى للتخطيط المتعددة، ومشروع رؤية الكويت 2035، وبرامج العمل الحكومية وغيرها، وكان يمكن القبول وقتها بتراجع مهنية هذا التقرير أو عدم التعويل على كفاءة تلك الدراسة، باعتبار أن العلة في التنفيذ والإدارة أكثر منها في المقترحات والبرامج، خصوصا مع وجود طفرة اسعار نفطية تغطي مكامن الخلل في اوجه الاقتصاد الكويتي، مهما كبرت أو تعددت.العلة ليست في الاقتراض
غير أن وثيقة استدامة تأتي في وقت تتوسع الكويت في التوجه الى اسواق الديون العالمية، من خلال رفع سقف اقتراض الحكومة (الديون السيادية) إلى 25 مليار دينار، ومد فترة الاقتراض إلى 30 عاماً، وكان يفترض فيها ان تكون خط الدفاع الاول لمواجهة اي تراجع مستمر في سوق النفط، فضلا عن عدم قدرة الادارة المالية للدولة على اعداد ميزانية سنوية تتضمن انخفاضا حقيقيا في الإنفاق العام، الذي ينحرف في شقيه الرأسمالي والجاري عن مقاصد اعداد الميزانيات الحصيفة، إضافة إلى وجود مصروفات خارج الميزانية، بما لا يقل عن 30 في المئة من اجمالي الميزانية المعلنة... فالعلة هنا ليست في الاقتراض، ولا حتى الفوائد المترتبة على تسعير أي إصدار، ولكن في تنامي الاقتراض لسد احتياجات الإنفاق العام في ظل عجز الميزانية، بمعنى استخدام مبالغ التمويل لتغطية نفقات جارية، لا لمشاريع من شأنها ان تعدل اختلالات الاقتصاد، لاسيما سوق العمل او الايرادات غير النفطية، فمعظم الدول ذات الإدارة الحصيفة تتعامل مع ملفات العجز والاستدانة باستخدام اموال الاقتراض في مشاريع تنموية على المدى الطويل، لا لتغطية النفقات التي لا تعطي عوائد اقتصادية او مالية.نمو الميزانية
فالإدارة العامة التي أعلنت في "استدامة" عن استحداث ميزانية متوسطة الأجل تتضمن ترشيد النفقات وضبط تكاليف المشاريع، وهي ذاتها التي اعلنت ميزانية لعام 2018-2019 تعتبر ثاني اعلى ميزانية خلال 8 سنوات، بنسبة نمو 0.1 في المئة عن الميزانية السابقة، مع توقع نمو 5 في المئة لميزانية العام 2020-2021 عند 21 مليار دينار!كان المنتظر من وثيقة استدامة أن تتضمن آليات واضحة ومحددة لإدارة الدين العام، الذي بات واحدا من أهم بنود التحديات الاقتصادية خلال السنوات المقبلة، بعد استدانة الكويت 8 مليارات دينار، ما بين ادوات الدين المحلية والسندات الدولية، فضلا عن التوجه لرفع سقف الدين في الفترة المقبلة؛ إذ لا يمكن التعاطي مع المالية العامة في زمن الاقتراض والديون بنفس عقلية إدارتها في زمن الوفرة والفوائض المليارية، وسيعني إهمال هذا الملف رفع كلفة الاقتراض مستقبلا، وصعوبة الحصول على التمويل المطلوب، وربما في أسوأ الأحوال التعثر عن السداد والخضوع تحت وطأة وقسوة شروط الدائنين.محدودية في النقاش
اللافت أيضا ان محدودية المهنية الحكومية في اعداد "استدامة" نسجت على منوال ضعف مهني نيابي في مناقشة الوثيقة، التي جاءت متأخرة في يوم برلماني طويل، وشكاوى عدد من النواب لعدم حصولهم اصلا على نسخة من الوثيقة؛ فلم يسأل أي نائب عن الارقام والبيانات وكيفية خفض الحكومة للعجز في الميزانية الى ما دون 3 مليارات دينار بحلول عام 2021، أو رفع مساهمة الناتج المحلي الاجمالي للقطاع الخاص بنسبة 20 في المئة، مقارنة بعام 2016، ولا حتى مجرد طلب بيان حكومي ربع سنوي او نصف سنوي يوضح مدى اتساق برامج العمل الفعلية مع الاهداف في الوثيقة، لا سيما ان العديد من الخطط (ابرزها خطة التنمية) تعاني من انحراف النتائج عن الاهداف، او محدودية المستهدفات لتبدو نسب الإنجاز كبيرة!مفهوم أن يهتم نواب مجلس الامة بجزئية ألا تتضمن الوثيقة ما "يمس جيب المواطن"، لكن هذا لا يعني ان تطرح وثائق الاقتصاد، التي يفترض انها مشروع دولة، بصورة محدودة المهنية بلا أرقام ولا بيانات ولا تفاصيل ولا حتى توقعات مستقبلية للآثار على سوق العمل أو الميزانية او الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية والمالية.عندما تتجه أي دولة لديها إدارة واعية بمخاطر المستقبل نحو التوسع في سوق الدين العام السيادي، فأقل ما يمكن توقعه منها إعداد خطة حقيقية تمثل سياسات دفاعية تحميها من أي اختلال محتمل، لا سيما إن كان هذا الاختلال مرتبطا بسوق النفط الضعيف على المديين المتوسط والطويل، لئلا تتعرض لمصائر دول تعاملت مع الديون السيادية بقدر عالٍ من التهور والإهمال، حتى تحولت ديونها الى حالة عجز عن السداد هزت اقتصادياتها كاليونان وفنزويلا.
ميزانية 2018-2019 هي ثاني أعلى ميزانية خلال 8 سنوات بنمو 0.1 في المئة عن سابقتها مع توقع النمو بـ5 في المئة لميزانية 2020-2021 عند 21 مليار دينار!