من أسرار نهضة ألمانيا واليابان
لماذا جلبت "نكسة حزيران" (يونيو) 1967 لنا التيارات الدينية والطائفية والتعصب، في حين نجح الألمان واليابانيون في تحويل كارثة بحجم الحرب العالمية الثانية إلى بداية نهضة ومصنع معجزات؟ ولماذا تحول الفكر الديني والإسلام السياسي إلى محور للحياة في مجتمعاتنا السنية والشيعية، عربا وأتراكا وإيرانيين، في حين للدين في الكثير من دول العالم مكانته وقدسيته بعيداً عن السياسة؟تساءل الكاتب "عبدالله بن بخيت" قبل عامين في صحيفة "الرياض" بالمملكة العربية السعودية، لماذا تقدم الغرب وتخلفنا"، وتحدث عن تجربته: "أعيش منذ خمس سنوات في كندا لم أصادف أن سألني أي مسؤول عن جنسيتي أو ديني، كل أوراقي الرسمية مثل الرخصة لا يوجد فيها ما يشير إلى جنسيتي أو ديني، ما إن تطأ قدمك الأرض الكندية حتى تصبح إنسانا فقط كل انتماءاتك العرقية أو الدينية أو الثقافية تخصك أنت ولا تخص الآخر بما فيها الدولة. ثمة قانون متعال يضمن حرية الجميع وسلامة حقوقهم ومعتقداتهم". (18/ 9/ 2016).في الفترة نفسها سأل الكاتب المعروف "غسان الإمام" في صحيفة الشرق الأوسط سؤالا مماثلا: "لماذا أخفق العرب ونجحت ألمانيا واليابان؟" وأجاب: "راهنت اليابان وألمانيا بعد الهزيمة الساحقة في الحرب العالمية الثانية على التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي والسياسي لمواصلة التقدم الذي عطلته الحرب". (20/ 9/ 2016).
والسبب في تقدم واستقرار كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب ليس التنمية وحدها، بل السبب في اعتقادي عدم الانجرار إلى ثقافة الكراهية والانتقام ضد الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا، وعدم اجترار الماضي، وعدم لوم هذا وذاك أو اعتبار الهزيمة بسبب الابتعاد عن العقائد والأديان والقيم وغير ذلك، مما انزلقنا نحن وغصنا فيه ولا نزال. ليس الدول العربية وحدها بل العالم الإسلامي والكثير من دول "العالم الثالث".يقول "غسان الإمام" عن ألمانيا واليابان: "وكان البلدان من الثقة بالنفس إلى درجة مهادنة ومصالحة العدو (أميركا) والتخلي عن العنف العسكري ثم تبني المشروع الديمقراطي لهذا العدو، وهكذا، تمكن البَلَدان من إعادة بناء ما دمرته الحرب، بل حققا تقدما في التنمية الاقتصادية والاجتماعية يفوق ما حققته الدول المنتصرة عليها، كبريطانيا وفرنسا. وغدت ألمانيا بالذات قاطرة أوروبا الاقتصادية، وقائدة مسيرتها الاتحادية التي وضعت نهاية للصراعات والنزاعات والحروب في القارة القديمة".ثمة سياسة أخرى لليابان وألمانيا، بالإضافة إلى ما يذكر الكاتب، وفرت على اليابانيين والألمان الملايين والمليارات، فبينما واصلت بريطانيا مثلا الإنفاق على أسلحتها وأساطيلها، ونازع الفرنسيون الأميركيين السلطان على أوروبا والعالم وواصلوا كالإنكليز الإنفاق العسكري التقليدي والنووي، انصرف اليابانيون والألمان إلى استكمال بناء الدولتين ورخاء الشعبين وسط احتفاء العالم كله بالمعجزتين اليابانية والألمانية. ولا شك أن قرار إعطاء الأولوية للاقتصاد والتصدير لم يكن سهلا في البلدين المعروفين بتقاليدهما العسكرية منذ قرون، وهكذا استفادا من الحماية النووية والقواعد الأميركية!كيف كانت حالنا اليوم في مصر والعراق وسورية وغيرها لو أننا أعطينا الأولوية لتحديث وعصرنة مجتمعاتنا بعد هزيمة يونيو 1967 مثلا، ولو كنا قبل نصف قرن قررنا الانتماء إلى كتلة البلدان المتقدمة بدلا من السياسات العسكرية وصعود المد الأصولي والتعصب الديني والترويح للخطب الرنانة ودعاة الانتقام والتحريض على الأنظمة الحالية وعلى الغرب من خلال بدائل دينية غامضة، كالخلافة التي بشر بها بعض الإسلاميين و"النظام الإسلامي" الذي خدع به البعض الآخر عامة الناس إلى اليوم؟! لم نخسر الأرض فحسب في هزيمة 1967، بل كذلك إرادة النهضة ودروبها المجربة في تجارب اليابان وألمانيا وكوريا وغيرها، وخسرنا كذلك فكرنا السياسي الصحيح الذي بذلنا جهدا كبيرا لتطويره منذ منتصف القرن التاسع عشر، فبدلا من اللجوء للأساليب العلمية في تحليل ما جرى لنا وأسباب الهزيمة ودوام التخلف وغير ذلك، اتسع الميدان في مختلف المجتمعات العربية للإحياء الديني والتعصب والأحزاب والجماعات، وعادت مجتمعات العالم العربي والإسلامي قرونا إلى الوراء سنّة وشيعة! ولم نعد نفهم ما جرى لنا، ولم تعد دول العالم قادرة على فهم العرب والمسلمين أو التعامل معهم حضاريا بشكل علني صريح، فكيف يعقل مثلا أن يكون "الإخوان المسلمون" أقوى أحزاب العالم العربي وأوسعها انتشارا وسط هذه العولمة والثورة العلمية؟ وكيف تنفق دول كالكويت والسعودية ومصر والعراق وغيرها الملايين والمليارات على التعليم العام والجامعي ليلتحق كل هذا العدد من الأطباء والمهندسين والمبرمجين العرب والإيرانيين والأتراك بالأحزاب الدينية وبالتنظيمات الإرهابية؟كيف يفكر الشباب في هذه الدول وكيف تفكر المرأة؟ وكيف تدار المدارس والجامعات ومؤسسات البحث والتطوير؟التيار الديني بأحزابه وشحنات الأفكار التي لا علاقة لها بالعلم والعصر والتحديث، خنق تقدم العرب والإيرانيين والأتراك وحتى المسلمين في أوروبا، وإلا كيف يمكن أن نفهم هذا الجيل الثاني والثالث من مسلمي الباكستان والهند، وتونس ومصر والمغرب في أوروبا، عندما يهجر الواحد منهم المال والمنزل والزوجة والولد كي يتجه إلى سورية أو أفغانستان أو مجاهل الصحراء الكبرى في شمال إفريقيا ومناطق الموت المجاني الأخرى، سعيا نحو "الجهاد"، ويقتنع دون أدنى نقاش بأفكار "القاعدة" و"داعش" ويتبع جملة من الدعاة المغامرين السذج والقادة الجهلة؟ لماذا فشلنا بعد هزيمة 1967، وأعداد العرب والمسلمين أكبر بكثير من اليابانيين والألمان، وهزيمتهم في يونيو 1967 لا تعد شيئا مقارنة بالحرب العالمية الثانية، وما جرى فيها للشعبين في آسيا وأوروبا، وما استخدم الحلفاء ضدهما من سلاح تقليدي ونووي، وما مات من الألمان واليابانيين وما تم تدميره من مصانع ومدن وقرى وشبكات طرق وكل شيء!لم ينظر اليابانيون إلى هزيمتهم نظرة دينية، ولا اكترثوا أن الأميركيين مسيحيون، ولا اهتمت ألمانيا ولا بحثت عن أدوية لأوجاعها وإصلاح حالها من "ماضيها التليد"! وتراثها البروتستانتي!بحث اليابانيون عن بديل للفتوحات والغزوات العسكرية، التي لا تزال تفتن العقل العربي والإسلامي، فوجدوا البديل في الصناعة والتكنولوجيا وتصدير الإلكترونيات والتجارة وفي فترة قصيرة عايشها الكثير منا، باتت اليابان في صدر الدول، رغم ندرة خاماتها وضيق أرضها والزلازل والهزات اليومية والعواصف، وكل شيء يخطر بالبال!دولة تعداد سكانها نحو 127 مليون نسمة ومساحتها أقل من 400 ألف كم مربع، 378 ألف كم مربع فقط وميزانيتها 1.7 تريليون دولار، أي 1700 مليار وصادراتها 624 مليارا ووارداتها نحو ذلك، ومتوسط الدخل للفرد أكثر من 38 ألف دولار دون نفط، ودون رواتب من غير دوام!وذاقت ألمانيا ويلات حربين عالميتين، كان ساستها والأحلام القومية التوسعية من مسبباتهما، ولهذا فرض الإنكليز والفرنسيون وبقية الحلفاء عليها دفع تعويضات مالية هائلة، دمرت في النهاية عملتها ومهدت لصعود النازية والتي بدورها أدت إلى هزيمة عسكرية شنيعة ودمار لا يوصف، وتقسيم ألمانيا وخسارة لأراضيها! وكان أول ما فعله اليابانيون والألمان بعد الحرب التخلص من ثقافة تمجيد الذات والافتخار والغرور القومي، وتبنوا احترام المجتمع الدولي والسلام العالمي والتقدم الاقتصادي.وتقترب مساحة ألمانيا اليوم بعد اتحادها عام 1990 من مساحة اليابان، 357 ألف كيلومتر مربع، وسكانها يصل عددهم إلى ما يقارب 81 مليون نسمة، وتصل ميزانية ألمانيا إلى ما يقارب اليابان بقليل، أي تريليون ونصف دولار- 1500 مليار- بمعدل دخل للفرد نحو 47 ألف دولار سنويا وبصادرات تصل إلى ضعف صادرات اليابان، 1300 مليار دولار وواردات لا تصل إلى ألف مليار، وتصل عائدات السياحة في اليابان إلى نحو 25 مليار دولار وفي ألمانيا إلى 37 مليارا.(The World Almanac and book of Facts, 2017, USA, NY).وكانت الولايات المتحدة قد طلبت من اليابان بعد هزيمة 1945 تغيير دستورها، وتوسيع الحقوق السياسية لتشمل النساء، وإجراء تغييرات سياسية واقتصادية ودستورية وتعليمية في المناهج وغير ذلك، وتعايشت اليابان مع كل تلك القرارات دون خطب ومنابر ومنشورات!وحتى عندما اتحدت ألمانيا الشرقية والغربية عام 1990 وبرزت ألمانيا الموحدة، حرم عليها وزراء حلف الناتو في اجتماعهم خلال مايو من ذلك العام امتلاك الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية وجرت أول انتخابات ألمانية عامة في الثالث من أكتوبر، حيث تم انتخاب المستشار "هيلموت كول" قائدا للدولة الموحدة، وكانت أولى خطوات الدولة تخصيص أكثر من تريليون دولار، لدعم وتجديد اقتصاد "ألماينا الشرقية"، التي اتحدت مع شقيقتها الغربية بعكس المصريين والسوريين والعراقيين والخليجيين بعد "نكسة حزيران" شنت ألمانيا واليابان كما ذكرنا حملة ثقافية سياسية فكرية ضد التراث النازي والثقافة الإمبراطورية، وجرى في ألمانيا واليابان توظيف جهود الحكومة والمؤسسات والتربويين والمثقفين لتغيير الثقافة العسكرية والقومية والتعبوية، وتم التخلص من الكتب والمنشورات والصور والأفلام الدعائية وغيرها. وجرت مناقشات علنية خلقت في الشباب والأجيال الجديدة وعيا عصريا وفكريا حديثا وثقافة إنسانية المنحى لتزيل آثار الثقافة الاستعلائية التوسعية.في المقابل تضاعفت عزلتنا نحن بعد 1967 عن العصر والعقل معا، وتزلزلت ثقافتنا وبقايا النهضة في دول مثل مصر وإيران وباكستان وحتى تركيا اليوم! كما انتكست في كل هذه الدول تقريبا ودول عربية وإسلامية أخرى، مناهج التعليم، وعمت الثقافة الدينية وأفكار الإسلام السياسي كل أركان العقول والمكتبات ودور النشر وبرامج الإذاعة والتلفاز وكانت أكبر الانتكاسات من نصيب الحركات النسائية العربية والإيرانية والتركية وغيرها، والتي عزلت تماما النصف الثاني من المجتمع عن مجالات كثيرة، وأحدثت تحولات عتيقة متخلفة ابتليت بها في النهاية الحركات الدينية نفسها.لماذا اندفع شيعة العراق بعد الإطاحة بصدام حسين باتجاه أحزابهم وقياداتهم الدينية والمذهبية والنماذج المتعصبة؟ ولماذا فتح سنّة العراق المجال والتعاطف للقاعدة وداعش في المقابل، وانغمسوا في دماء العراقيين وفي الإرهاب؟ولماذا اضطر المجتمع العراقي في نهاية الأمر أن يدفع للإرهاب منذ عام 2003 هذا الثمن الباهظ باسم "مقاومة الاحتلال الأميركي"؟ هل كانت دولة البعث ونظام صدام حقا أفضل من "الاحتلال الأميركي" وكيف؟ الكاتب والمثقف العربي والمسلم في دول كثيرة كارثة أخرى وانغلاقه الفكري لا يقل أحيانا عن دعاة الجماعات الأصولية، فهو لا يزال ضحية للأفكار نفسها التي خربت الديار!