عقل عظيم وضمائر لا تساوم
مع مطلع كل يوم يحاول الطغاة وأعوانهم وعملاؤهم إقناع الفلسطينيين بأن قضيتهم خاسرة، وفي كل يوم يحاولون زرع الإحباط في نفوسهم كي يتخلوا عن نضالهم من أجل الحرية والكرامة، يظهر إنسان مثل ستيفن هوكنغ فيبدد بموافقه وكلماته مساعي الطغاة ويمنح الأمل والثقة للشعب المكافح، ويشعر المناضلين في صفوفه أنهم ليسوا وحدهم في المعركة القاسية. سيتيفن هوكنغ الذي فقدناه الأسبوع الفائت عن 76 عاما لم يكن عقلا عظيما، أو صنف بأبحاثه في مجال الفيزياء النظرية والفلك على أنه أعظم فيزيائيي هذا العصر فقط، بل امتلك كذلك إرادة هائلة.بدأ يعاني وعمره 21 من مرض عصبي عضال يسبب ضمورا متزايدا في عضلات جسمه، وقال له الأطباء إنه سيعيش عامين فقط، لكنه تحدى المرض وتزوج وأنجب الأبناء، وواصل أبحاثه العلمية حتى عندما شلت كل عضلات جسمه وأصبح مقيدا بكرسيه المتحرك وقادرا على تحريك عينيه وعضلة واحدة فقط في وجهه، ومع ذلك واصل بمساعدة أجهزة الكمبيوتر أبحاثه العلمية وأبدع أعظم اكتشافاته النظرية، ليثبت أنه ما من مرض أو إعاقة أقوى من إرادة الإنسان على الحياة.
لكن ستيفن هوكنغ لم يمتلك عقلا عبقريا وإرادة صلبة فحسب، بل حمل معه حسا إنسانيا عظيما وضميرا لا يساوم، فرآه الناس يتظاهر وهو يسير على عكازيه إلى جانب الممثلة الشهيرة المناصرة لفلسطين فينيسا ريدغريف عام 1968، ضد العدوان الأميركي على فيتنام، ومناصرة لشعبها، ثم انحاز بكل ثقله العلمي والإنساني إلى جانب الشعب الفلسطيني ونضاله العادل، وجاء إلى جامعة بيرزيت وحاضر أمام مئات من طلابها وأساتذتها في عام 2006. وعندما دُعي إلى مؤتمر علمي ضخم في إسرائيل في مايو 2013 برعاية شمعون بيرس، أعلن بكل جرأة وشجاعة مقاطعته للمؤتمر ورفضه المشاركة فيه، فأكد انضمامه لحركة المقاطعة ضد المؤسسسات الأكاديمية (BDS) الإسرائيلية بسبب سياسة حكام إسرائيل، وقال في رسالته التي وجهها ردا على الدعوة، والتي آمل أن يقرأها كل المسؤولين العرب والفلسطينيين، "إن سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية تقود إلى الهاوية، واستجابة لرسائل زملائي الأكاديميين الفلسطينيين فإنني قررت مقاطعة المؤتمر". وقبل وفاته وجه هوكنغ رسالة عبر الفيسبوك الخاص به لمليون متابع يطلب منهم دعم سلسلة المحاضرات في الفيزياء المتقدمة لطلاب الفيزياء في فلسطين، وكتب "أنا أدعم حق العلماء من كل أنحاء العالم في حرية الحركة والتنقل ونشر أعمالهم"، ولم يتردد عن توجيه تحية للمعلمة الفلسطينية حنان الحروب على فوزها بمركز المعلم الأول في العالم فكتب "من معلمِ لمعلمة أنت تلهمين بعملك الناس في كل مكان".وفي عام 2009 وبعد العدوان الإسرائيلي المدمر على قطاع غزة كتب ستيفن هوكنغ "إن الناس الذين يعيشون تحت الاحتلال سيواصلون المقاومة بكل وسيلة يستطيعونها"، وقال في لقاء بقناة الجزيرة "إن الأوضاع في فلسطين تشبه ما كان قائما في جنوب إفريقيا( نظام الأبارتهايد) قبل عام 1990 ولا يمكن أن تستمر كذلك"، وفي كل ذلك أثبت ستيفن هوكنغ امتلاكه ضميرا حيا، لا يخشى الانتقادات، وأنه جاهز للوقوف إلى جانب المظلومين والمضطهدين في كل مكان. يوم الجمعة الماضي صادفت الذكرى الخامسة عشرة لاستشهاد إنسانة باسلة أخرى، راشيل كوري، جاءت لفلسطين من ولاية واشنطن في الولايات المتحدة وعمرها 23 عاما لتشارك في مساندة وتقديم الحماية للفلسطينيين في قطاع غزة عبر لجان التضامن. وفي 16 مارس 2003، بعد وصولها بشهرين تصدت بجسدها هي ورفاقها على مدار ثلاث ساعات للجرافات الإسرائيلية التي كانت تحاول هدم بيوت الفلسطينيين في رفح، فسحقتها الجرافات الإسرائيلية المدرعة حتى الموت. وعندما رفع والداها قضية أمام المحاكم الإسرائيلية قررت هذه المحاكم بما في ذلك المحكمة العليا الإسرائيلية تبرئة قاتليها، لتكون مثل كل القضاء الإسرائيلي مشاركة في الجريمة، كما رفضت المحاكم الأميركية النظر في قضيتها. عندما كانت في العاشرة من عمرها كتبت راشيل كوري" أنا موجودة من أجل الأطفال الآخرين، أنا هنا لأنني حريصة على الآخرين، أنا هنا لأن آلاف الأطفال يعانون في كل مكان، حلمي أن أمنح الأمل للأطفال الفقراء"، وقد منحتنا كوري مثل ستيفن هوكنغ الكثير من الأمل. شكرا لكما أيها المكافحان، ولتنعم أرواحكما بالسلام الأبدي. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية