الانطباعية الفرنسية في المنفى اللندني
في 19 يوليو 1870 أعلنت فرنسا الحرب على بروسيا، واثقة من قوتها، لكن النتائج كانت وخيمة: أكثر من مئتي ألف قتيل من الطرفين، خلع نابليون الثالث، حصار باريس الذي اضطر الناس إلى أكل الحيوان من أي جنس، ثم انتفاضة كومونة باريس الدموية، على ما اعتبرته الجماهير مهانة، والتي قدمت بدورها أكثر من عشرين ألف ضحية. نسبة كبيرة ممن هربوا من جحيم الحرب، والحرب الأهلية، وجدوا ملاذاً في إنكلترا، ومن بينهم عدد من الفنانين التشكيليين البارزين، الذين وجدوا ترحاباً من السلطات، ومن الوسط الثقافي والفني.متحف Tate Britain يقدم معرضاً ضخماً للأعمال الفنية التي أنتجها هؤلاء طوال إقامتهم في لندن وضواحيها. الإرباك الذي أحدثه المعرض، ولم يكن لصالحه، لدى نقاد الفن في الصحافة، يتعلق بالعنوان وحده: "انطباعيون في لندن، فنانون فرنسيون في المنفى"، لأن المشاركين من الانطباعيين الذين نعرف قلة، أبرزهم مونيه وبيسارو، والبقية لا شأن لهم بالحركة الفنية التي كانت في مطلع فتوتها.لو اكتفى العنوان بقسمه الثاني (فنانون فرنسيون في المنفى) لهدأ بال نقاد الفن، الذين أثقلوا عناوين مقالاتهم بالشجب: "أسوأ معرض رأيته عن الانطباعيين في حياتي"، يقول ناقد "الـﮔارديان".
"انطباعيون في لندن، هو أكثر عنوان مضلل لعرض فني في الذاكرة الحية" (تلـﮔراف)، "العرض مخادع" (الإندبندنت)، وهكذا. ضرب من ردود الأفعال المتطرفة، كان يمكن لأصحابها أن يكتفوا بعتاب وإيضاح للجمهور. حين رأيت المعرض، بمتعة طبعاً، خامرني نفس الهاجس، إذ تعرفت على مونيه وبيسارو كانطباعييْن بين فنانين لا علاقة لهم بالانطباعية، ومنظم المعرض أراد كسب مزيد من الجمهور الإنكليزي الذي تستهويه التيارات والمدارس الفنية. لكنه مُخطئ، لأن عنوان "فنانون فرنسيون في المنفى الإنكليزي" لن يقل جاذبية، وخاصة أن النسبة الأكبر من فناني ولوحات المعرض يقدمون عرضاً تشكيلياً ونحتياً عن مأساة الحرب، وعن السعي في المنفى لكسب مكانة فنية واجتماعية، ودخل مالي، وقد حقق عدد منهم هذه المكانة.المعرض موزع على 8 قاعات رحبة، كانت الأولى بمثابة مقدمة، مكرّسة للوحات رُسمت في باريس، إبان الحرب والكومونة الدمويتين وللمرحلة المبكرة من إقامة مونيه، بيسارو وألفريد سِسلي. في الجزء الأول تلتحم الذاكرة التاريخية والمخيلة الفنية بأداء بالغ التأثير. القاعة الثانية تقتصر على ألفريد سِسلي والحظوة التي لقيها في أوساط المجتمع الراقي. لوحاته ﭭيكتورية الطابع، تلائم الذائقة الإنكليزية المحافظة آنذاك. وكذلك أعمال آخرين أطلعُ على أعمالهم أول مرة، أمثال النحاتين Dalou وCarpeux، اللذين انفردا بقاعتين. النحت الماهر يخلف دهشة تسبق الإحساس بالجمال. ولا أعرف ما إذا كان هذا لصالح وعيي الفني أم لا؟ الأول يشتغل على الطين الحنائي، وعمله (فلاحة فرنسية ترضع وليدها) بالغ التأثير العاطفي. الثاني يشتغل على الحجر.كان مونيه في التاسعة والعشرين حين هرب من التجنيد الإجباري والحرب، وحلَّ في لندن. في حين كان بيسارو قد بلغ الأربعين، لكنهما جاءا لندن مرات عدة على كبر، وخاصة مونيه (1899، 1900، 1901)، ففي هذه الزيارات المتأخرة قدم أعماله الشهيرة، والتي توّجت هذا المعرض في القاعة الأخيرة.هنا نتأمل مع الرسام الانطباعي مشاهد من نهر التَيمس في 8 لوحات، أكثرها رُسمت من نافذة غرفته في فندق Savoy، وهي تطل من بعيد على مبنى البرلمان وبرج ﭭيكتوريا. المشهد فيها انطباعي في ترصد الضباب اللندني عبر إضاءات، أو إضاءة شمس، خافتة وخفية لعناصر دائمة الحركة. إنها غامضة في تكتّمها. مونيه وضع سلسلة كبيرة من لوحات نهر التَيمس، استطاع أن يعرض منها في باريس 37 لوحة.في القاعة الثامنة شاء منظم المعرض أن يختم "انطباعية" مونيه بـ"تعبيرية" فنان فرنسي يُدعى أندريه ديريَن. كان شاباً في العشرينيات حين شاهد معرض مونيه، فأخذته رغبة في التحدي، وجاء لندن ليرسم من مشاهدها قرابة ثلاثين لوحة، بأسلوب يتعارض مع تماهي ألوان انطباعية مونيه وتلاشي خطوطها، بألوان صارخة وخطوط حادة.