الديمقراطية تعالج جراحها
لا يمكن أن أنسى أول مشهد انتخابي حقيقي أمكن لي أن أتابعه بكثير من الاهتمام والشغف؛ وهو المشهد الذي عكس تلك المنازلة الانتخابية الحادة بين الرئيسين الأميركيين الأسبقين رونالد ريغان وجيمي كارتر، ضمن المناظرة التي جرت بينهما في 28 أكتوبر 1980.كان هذا بالنسبة إلى تلميذ مصري، يدرس في المرحلة الابتدائية، بمنزلة "خيال علمي"... وكيف لا؟ وهو يعيش في بلد ينتهي فيه دور الحاكم عادة بالعزل أو القتل أو الموت، وليس عبر آلية لتداول السلطة، يتبارى خلالها مرشحان بنزاهة وإنصاف، ويمنح كل منهما وقتاً مساوياً للآخر، حتى لو كان أحدهما رئيس دولة عظمى والآخر مجرد ممثل مغمور.بعد هذا المشهد المثير للخيال، والباعث على الأحلام، لم يكن أمام مصر لاحقاً، كغيرها من الجمهوريات العربية المنكوبة بالانتخابات الرديئة، إلا أن تصحو على مقتل الرئيس السادات، وتولي نائبه حسني مبارك السلطة، التي مكث فيها ثلاثة عقود، لم تنته إلا بانتفاضة عارمة، وتدخل من الجيش.
لم يمنحنا مبارك فرصة لمعاينة الانتخابات العادلة، ويسود اعتقاد على نطاق واسع أن التزوير الذي شهدته النسخة الأخيرة للانتخابات البرلمانية في عهده (جرت في عام 2010) كان سبباً رئيساً في بلورة الشعور الغاضب ضده، مما وطد للانتفاضة، التي أطاحته، وقادته لاحقاً إلى محاكمات عدة، أدين في بعضها، وتم سجنه.سيكون أبناء الجمهوريات العربية المحكومة بالانتخابات المزورة مدينين لتلك المشاهد الخلابة التي كانت تأتي إلى المنطقة عبر الأقمار الاصطناعية، وتُعرض لقطات منها في نشرات المساء، بمداعبة خيالاتهم، وتعزيز أحلامهم... لكن الأمور لا تبدو بهذه البساطة وهذا اليقين في جميع الأحوال.فلطالما كانت الانتخابات الأميركية والفرنسية ملهمة لهؤلاء الذين يعيشون في العالم الثالث، خصوصاً عندما تجلد قلة حيلتهم في توفير آلية سلمية رشيدة لتداول السلطة، وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص، واحترام حق الجمهور في الاختيار، وإتاحة الفرص للراغبين في الترشح للتعبير عن برامجهم وأفكارهم بحرية، وضبط العملية الانتخابية، ومنع تزوير إرادة الناخبين.لكن تطورات أخيرة شهدتها فرنسا والولايات المتحدة راحت تخلخل هذه الصور والانطباعات، وتشير إلى ما يمكن اعتباره خللاً مستوراً في العملية الانتخابية، قد يخلخل نزاهتها، ويحد من قدرتها على تجسيد الإرادة الحرة للناخبين.ففي فرنسا، تم توجيه ثلاثة اتهامات إلى الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، يوم الأربعاء الماضي، بخصوص قضية "تمويل ليبي" لحملته الانتخابية، وهي اتهامات تتعلق بـ"التمويل غير القانوني لحملته الانتخابية" و"إخفاء أموال عامة ليبية" و"الفساد السلبي". وقد أفرج عن ساركوزي بعد توقيف احتياطي استمر 26 ساعة وإخضاعه ليومين من الاستجواب بشأن تمويل حملته الانتخابية الرئاسية عام 2007، بعد ظهور اتهامات جدية له بتقاضي نحو خمسة ملايين يورو من القذافي لتمويل حملته الانتخابية آنذاك.وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، ثمة اتهامات جدية يمكن أن تؤثر في السلامة القانونية لنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في عام 2016، والتي وصل بمقتضاها ترامب إلى سدة السلطة في بلاده، وهي اتهامات تتعلق بدور روسي مفترض في تعزيز فرص الرئيس أمام منافسته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون. وتتعلق تلك الاتهامات بالمجال الإعلامي بصورة مباشرة، وخصوصاً الميدان الذي ازدهرت فيه مساهمات ترامب وتفاعلاته؛ أي وسائل التواصل الاجتماعي.ففي شهر فبراير الماضي، أكد المحقق الخاص الأميركي روبرت مولر، في لائحة اتهام رسمية، أن "وكالة روسية و13 مواطناً روسياً تدخلوا في حملة الانتخابات الأميركية في الفترة من 2014 إلى 2016، في إطار سياسة متعددة الأركان استهدفت دعم ترامب وتشويه صورة منافسته هيلاري كلينتون".تتحدث لائحة الاتهام التي قدمها مولر، والتي جاءت في 37 صفحة، عن "مؤامرة للإخلال بالانتخابات الأميركية على يد أشخاص استخدموا حسابات إلكترونية زائفة لبث رسائل مثيرة للانقسام، وسافروا إلى الولايات المتحدة لجمع معلومات، ونظموا مسيرات سياسية متظاهرين بأنهم أميركيون".وتفيد اللائحة، التي اتسقت مع تحقيقات رسمية سابقة، وتقارير صحافية نُشرت في وسائل إعلام معتبرة، أن "وكالة أبحاث الإنترنت الروسية كان لديها هدف استراتيجي لزرع الانقسام في النظام السياسي الأميركي، وخصوصاً في أجواء الانتخابات الرئاسية التي جرت في عام 2016".وتعكس لائحة الاتهام إلى حد بعيد نتائج تقييم الاستخبارات الأميركية (سي أي إيه)، في يناير 2017، والتي توصلت إلى أن "روسيا تدخلت في الانتخابات وأن هدفها تضمن في نهاية الأمر مساعدة ترامب".ليس هذا فقط، لكن ورقة بحثية مهمة، نشرت في عام 2017، في دورية "استراتيجيك ستديز كوترلي"- الدورية الاستراتيجية الصادرة عن القوات الجوية الأميركية- أفادت أن مروجي الحملات الدعائية ذات التوظيف السياسي عمدوا إلى استغلال وسائط التواصل الاجتماعي بكثافة لاستهداف الأوضاع السياسية الأميركية خلال السنوات القليلة الماضية، وخصوصاً خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وتشرح الورقة التي جاءت تحت عنوان "التوجه السائد: شبكات التواصل الاجتماعي في إطار حرب المعلومات"، كيف استخدم "داعش" تلك الوسائط من أجل ترويج أخبار زائفة استهدفت الحد من القدرة على مواجهته، وتلطيخ سمعة أعدائه، واستقطاب عناصر للقتال في صفوفه.لم تظهر نتيجة التحقيقات الدائرة في كل من فرنسا والولايات المتحدة في شأن تلك التدخلات في العملية الانتخابية في البلدين، لكن ما رشح، حتى الآن، من أدلة وقرائن يكشف بوضوح أن الآلية الانتخابية، ومن ورائها العملية الديمقراطية ذاتها، تواجهان خطراً وتعانيان أزمة.لكن ثمة ما يبعث على الارتياح، ويعزز الثقة بالديمقراطية، والانتخابات النزيهة، باعتبارهما أفضل وسيلة للحكم وتداول السلطة في مجتمعات رشيدة؛ إذ بات بوسع الفرنسيين والأميركيين أن يبحثوا في هذا العوار، ويحاكموا المسؤولين عنه، وربما يتمكنوا من وضع المزيد من القواعد والشروط التي يمكن أن تحد من فرص تكراره.وفي كل الأحوال، فإن الديمقراطية تتعثر ويمكن اختراقها والنيل من نزاهتها في بعض الأحيان، والانتخابات التنافسية الرشيدة قد تخفق في استيفاء معايير السلامة، لكن فرصة التصحيح وتجاوز الأخطاء تكون متاحة عادة.* كاتب مصري