ستحل في الخامس عشر من مايو الذكرى السبعون للنكبة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني عندما ارتكبت العصابات الصهيونية جريمة التطهير العرقي ضد شعب بكامله، فأجبرت بالإرهاب والمجازر وقوة السلاح 70 في المئة من أبنائه وبناته على الهجرة والتشرد.

دُعينا قبل أيام للمشاركة في مؤتمر نظمه مركز الدرسات الاستراتيجية الفلسطينية الذي أعيد إحياؤه يوم ذكرى معركة الكرامة الفلسطينية، وطُلب مني تقديم بحث حول أهم الأخطاء التي وقعت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.

Ad

واكتشفت أننا عندما ننظر إلى الماضي لا نرى كثيرا من العبر والأخطاء التي يجب أن نتعلم منها فقط، بل ولعميق أسفي أن بعض هذه الأخطاء ما زال يتكرر دون أن نتعلم منه.

وللإنصاف وبغض النظر عن فداحة الأخطاء التي ارتكبت في تلك الفترة، فلا بد من الإشارة إلى أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت تخوض معركة غير متكافئة لسببين، أولهما التفاوت الهائل في القدرات المادية بينها وبين الحركة الصهيونية ماليا، وعسكريا، وخبرة، وتدريبا.

وثانيا لأن الحركة الصهيونية كانت، وما زالت، جزءا من منظومة استعمارية تلقت منها دعماً غير محدود، في حين كان الفلسطينيون جزءا من حركة تحرر عالمية، كانت في بداية استجماع طاقاتها للتحرر من قيود الاستعمار من الهند إلى مصر والجزائر.

ولعل أبلغ وصف لما كان يجري في فلسطين جاء على لسان المهاتما غاندي، الذي وقف ضد الحركة الصهيونية لأنها كانت تحاول الاستيلاء على بلد يخص شعبا آخر.

أول الأخطاء التي عاناها الشعب الفلسطيني كان افتقاره لقيادة مستقلة متطورة، وقادرة على التعامل مع تحديات العصر، في مواجهة الحركة الصهيونية المنظمة، قيادة طغى عليها الطابع الإقطاعي– العشائري، وسمحت لنفسها بأن تتصارع على فتات السلطة الذاتية التي قدمها الاستعمار البريطاني بدل أن تنشغل في توحيد نضالها ضده وضد الحركة الصهيونية.

الخطأ الثاني كان التفاوت الصارخ في مستوى التنظيم بين الحركة الفلسطينية العفوية والمنقسمة، وبين الحركة الصهيونية المنظمة، التي اعتمدت على إنشاء وترسيخ عدد لا يحصى من المؤسسات والجمعيات والتنظيمات السياسية، وعملت على تطوير قدراتها بانتظام، بل وصل الأمر بها إلى بناء قاعدة معلومات تفصيلية لكل قرية وحي في فلسطين، يشمل عائلاتها وأراضيها ومصادر رزقها، وخلافاتها، والأسلحة المتوافرة لدى أهلها، وكل ذلك تمهيدا لشن الهجمات عليها واجتياحها خلال الصراع الذي صار محتوما.

ولعل خير من وصف ما قامت به الحركة الصهيونية في تلك الفترة هو الباحث الفلسطيني المتميز صبري جريس في مجلدين أنصح كل مهتم بمعرفة الحركة الصهيونية وأساليبها أن يقرأهما. الخطأ الثالث كان الانقسام الفلسطيني الداخلي العميق بين ما سمي "المجلسيين" و"المعارضين" وهو انقسام استغله الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية حتى العظم، فتلاعبا بالطرفين، عملا على تغذية الانقسام بينهما، ولكن ما جرى في حينه، وياللمفارقة، يشبه ما نعانيه اليوم من انقسام خطير يستغله أعداؤنا المرة تلو الأخرى.

أما الخطأ الرابع فقد كان الضعف الإعلامي فلسطينيا وعربيا، والقصور في تقديم الرواية الفلسطينية للعالم، بسبب الفجوة الواسعة بين الإدارة السياسية والإدارة الإعلامية.

وترك ذلك لإسرائيل فرصة الادعاء بأنها الضحية باعتبار أنها كانت تحارب خمسة جيوش عربية إلى جانب الفلسطنيين، وكأنها ديفيد الصغير في مواجهة جوليات الجبار.

ومن المذهل أن إحدى أبسط الحقائق حول حجم القوات المقاتلة في تلك الجيوش، أثناء تلك الحرب، ما زال مجهولا ليس فقط للعالم، بل وللعرب وللفلسطينيين أنفسهم.

فقلائل من يعرفون أن مجموع الجنود المقاتلين في الجيوش والقوات العربية الستة بدأ بأحد عشر ألف مقاتل، وانتهى في ذروة الحرب بثمانية عشر ألفا فقط، في حين كان حجم القوات الصهيونية المقاتلة ستين ألفا عند اندلاع القتال، ووصل الى مئة وعشرين ألفا في نهايته، وذلك دون الإشارة إلى التفاوت الهائل في نوعية السلاح من دبابات ومدافع وطائرات حربية امتلكها الإسرائيليون، مقابل أسلحة فاسدة في كثير من الأحيان، ودون الإشارة ألى مستوى الخبرات العسكرية التي تمتع بها الصهاينة نتيجة تطوع كثير من قادتهم ومقاتليهم في صفوف الجيش البريطاني، وجيوش أخرى خلال الحرب العالمية الثانية.

أما الخطأ الخامس فكان سوء التعامل مع مشروع التقسيم، وأنا لا ألوم هنا القيادة الفلسطينية، على رفضها للمشروع، إذ لم يكن بمقدورها تحمل ذلك الإجحاف في القرار الذي منح الفلسطينيين 44% من الأرض التي كانوا يملكون أكثر من 90% منها، بالإضافة إلى أن رفض قرار التقسيم كان في الأساس عربيا قبل أن يكون فلسطينيا.

ولكن الملامة على أن الفلسطنيين والعرب سمحوا بانتشار الرواية الإسرائيلية الكاذبة، بأن الإسرائيلين قبلوا قرار التقسيم، وذلك كذب فضحه المؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم الباحث في جامعة أكسفورد، والذي لم يثبت أن إسرائيل لم تحترم قرار التقسيم فاحتلت نصف ما كان مقررا للفلسطينيين فقط، بل لأنه أثبت عدم وجود أي وثيقة رسمية تثبت من قريب أو بعيد أن الإسرائيليين والحركة الصهيونية قبلوا مشروع التقسيم. لقد كانت تلك خدعة إعلامية تاريخية من إسرائيل ما زالت تنطلي على معظم الساسة والقادة، وصانعي الرأي العام في العالم.

الخطأ السادس، والأسوأ على الإطلاق، كان عدم إعداد الشعب الفلسطيني للثبات على أرضه في مواجهة الإرهاب الصهيوني، مما سهل على الحركة الصهيونية ترحيل معظم الشعب الفلسطيني، وللإنصاف هنا لا بد من تحميل جزء مهم من المسؤولية على الجيوش العربية التي أوهمت، هي وإعلامها، الفلسطينيين بأن رحيلهم سيكون قصيرا لأنها ستعيدهم بحرابها قريبا الى بيوتهم.

هذا الخطأ الأليم صار درسا تعلمه الشعب الفلسطيني عندما احتل الإسرائيليون الضفة والقطاع قبل واحد وخمسين عاما، ولولا ما تعلموه، ولولا صمودهم الذي اجترحه آباؤنا وأمهاتنا وأجدادنا مخاطرين بحياتهم، لضاعت القضية الفلسطينية في غياهب النسيان.

الخطأ السابع كان دون شك، الاتكال على الآخرين، وعلى أنظمة وجيوش، كانت رغم بطولة وتضحيات أفرادها، عاجزة عن مساعدة الفلسطينيين، وتورط بعضها بالتخلي عنهم، وعن قضيتهم، وما سببه ذلك من رضوخ القيادة الفلسطينية لضغوط وتدخلات وقرارات خارجية، دفعت ثمنا سياسيا واجتماعيا باهظا لها. وفي الخلاصة، فإن الأخطاء السبعة يمكن تلخيصها في جملة واحدة، غياب استراتيجية وطنية فلسطينية موحدة في مواجهة حركة صهيونية، قوية التنظيم، وماهرة في التخطيط، وتتسم بتفكير استراتيجي بعيد المدى.

ليس من السهل لوم الآخرين على ما ارتكبوه من أخطاء عندما يجري التحليل بأثر رجعي، ولكن من غير المقبول ألا تتعلم الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم من أخطائهم، أو أن تسمح لنفسها بتكرار تلك الأخطاء، خصوصا أن فكرها المعاصر قد بدأ طريقه بانتقاد تلك الأخطاء بالتحديد.

* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية