عن غياب المعارضة المدنية الديمقراطية
تقع على العناصر والجماعات السياسية الوطنية - الديمقراطية والتقدمية مسؤولية مضاعفة، لابتكار أشكال سياسية جبهوية جديدة تشكل اصطفافاً مدنياً - ديمقراطياً عريضاً تتطلبه المرحلة الحالية، وهو الأمر الذي سيخلق معارضة وطنية حقيقية وقوية من شأنها أن تُغيّر موازين القوى السياسية لمصلحة الإصلاح السياسي وتطوير نظامنا الديمقراطي.
الوضع السياسي المُشوّه الذي نعيشه يشمل ما يُسمى "معارضة" أو "تنظيمات سياسية" أيضاً، ففي واقع الأمر ليس لدينا معارضة حقيقية بالمعنى الديمقراطي للمصطلح، حيث إن الحكومة لدينا ثابتة، وإن تم أحياناً تغيير بعض الأسماء، وذلك بسبب غياب التداول الديمقراطي للسلطة التنفيذية. أضف إلى ذلك أن النظام السياسي يعارض وجود قانون لإشهار التنظيمات السياسية على أسس مدنية ديمقراطية، ولكنه يدعم ويشجّع، بدلاً من ذلك، عناصر وجماعات الإسلام السياسي بشقيها السني والشيعي بجانب الجماعات المحافظة على التكتل، ويُسهّل لها عملية التمدد الشعبي والطلابي والنقابي، فضلاً عن إقراره أنظمة انتخابية جعلتها تسيطر على المشهد السياسي لأن ذلك يخدم استمرار الوضع السياسي المُشوه ويضفي عليه "شرعية" مزيفة.
فهذه الجماعات لا تستهدف تغيير النهج السياسي من أجل تطوير النظام الديمقراطي؛ لأنها أصلاً لا تعترف بقيم الديمقراطية، وتختزل الحريات في حريتها السياسية كي تتمكن من إقصاء الخصوم وفرض وصايتها على الناس، لذا لا يدور صراعها مع السلطة حول الإصلاح السياسي من أجل تطوير النظام الديمقراطي، بل حول صندوق الاقتراع الذي من الممكن أن يوصلها إلى سلطة القرار السياسي من أجل التحكم فيه وتوجيهه لمصلحتها.لهذا فإن ما يُسمى في وسائل الإعلام "معارضة"، مع استثناءات قليلة جداً، لا تُشكل كتلة معارضة متماسكة، فهي إما جماعات الإسلام السياسي التي لا ينطبق عليها وصف المعارضة المدنية-الديمقراطية، أو شخصيات وطنية معارضة تدافع بشكل عام عن الدستور، وبالذات عن شقه السياسي لا الاجتماعي-الاقتصادي مع أن الواقع يثبت أن هناك أكثر من طريقة حكومية للالتفاف على مواده وروحه، كما أنها تنتقد الوضع القائم لكنها لا تستطيع، بحكم غياب الامتداد التنظيمي الفعلي، تقديم رؤية متكاملة وطرح برنامج بديل من الممكن تحقيقه. لهذا نلاحظ أن معظم الشخصيات السياسية المعارضة تنشغل في لجة التفاصيل اليومية، وأحياناً كثيرة تبني مواقفها السياسية على "تغريدة" عابرة في موقع "توتير" مع أنه عالم افتراضي لا يعكس الواقع، أو أنها تكتفي بالتعليق على قرارات الحكومة وتصريحاتها، أو انتقاد بعض تجاوزاتها الإدارية والمالية، وهو الأمر الذي تقوم به بعض الأجهزة الرسمية مثل ديوان المحاسبة.إزاء هذا الوضع السياسي المُشوّه، فإن العناصر والجماعات السياسية الوطنية-الديمقراطية والتقدمية عليها مسؤولية مضاعفة، كما ذكرنا مراراً وتكراراً في هذه الزاوية، لابتكار أشكال سياسية جبهوية جديدة تشكل اصطفافاً مدنياً-ديمقراطياً عريضاً تتطلبه المرحلة الحالية، وهو الأمر الذي سيخلق معارضة وطنية حقيقية وقوية من شأنها أن تُغيّر موازين القوى السياسية لمصلحة الإصلاح السياسي وتطوير نظامنا الديمقراطي، وذلك بدلاً من الاستمرار في حالة التشرذم المؤسف نتيجة الاختلاف على أهداف استراتيجية ليس هذا وقت الاختلاف عليها، أو إضاعة الوقت في تفاصيل هامشية لا قيمة لها، فمن يقرع الجرس؟