التشريعات الفاسدة أسوأ من الأطعمة الفاسدة، كما هي أسوأ من الأمراض المعدية، بل هي أسوأ من الفساد نفسه، فهي قاتلة للجميع، ومؤثرة على الكل، ليس فقط من يأكلها، وليس فقط من يصاب بها. فالفساد ينمو ويترعرع في حاضنة تشريعية قانونية لائحية إدارية تحميه وتقوي منه، وتجعل منه قاعدة بدلاً من أن يكون استثناء. العملية التشريعية الفاسدة تحول الفساد من حوادث فردية إلى ثقافة مكينة مسيطرة صعب اختراقها. الإشكالية في التشريع الفاسد هي أن الذين ينتجونه ليسوا بالضرورة فاسدين، وليسوا بالضرورة أصحاب مصالح شخصية، ولكنهم ولحسابات مختلفة، كاستغلال الفرص السياسية، أو الحاجة للظهور بالإنتاج السياسي قد يغالون وينتجون قوانين فاسدة يكون ضررها أكثر من نفعها، وأذاها أكثر من فائدتها. الفساد في التشريع ليس كالفساد التقليدي، فذلك الفساد ملعون بكل الألفاظ، ومرفوض بكل الصيغ والعبارات، ولكن الإفلات منه وارد جداً، وهو عنصر مكرر، فمن تاريخ تم نسيانه على حكم إدانة واضح، أو قانون لا يغطي جريمة فساد واضحة المعالم، فيفلت منها بـ "كبت" الوالدة، أو يفر إلى البهاما بعد صدور أحكام، أو يتم تهريبه ليعيش بقية عمره في جزر واق الواق. أما الفساد التشريعي فمعروف ومرصود بكل مراحله، ومعروف من هو المسؤول عنه، ومعروفة شخوصه وآلياته وكيفية صدوره منذ أن كان مشروعاً أو اقتراحاً يحبو إلى مناقشات لجانه إلى إحالته إلى مداولته الأولى فالثانية إلى صدوره ونشره بالجريدة الرسمية. يعني، كل شيء موثق وغالباً بالصوت والصورة إن شئت.وحيث إن مرتكبي فعل الفساد التشريعي معروفون، سواء كانوا نواباً أو حكومة، وخطواتهم مرصودة، فإنه صار علينا أن نناشدهم أن يقللوا من اضرارهم بالناس وإيذائهم لهم، حيث يظن البعض أنهم إنما يحسنون صنعاً. وتتنوع الإشكاليات في القوانين وتتعدد أسبابها، فهي تارة رغبة محمومة لدى نائب أو مجموعة لـ "تزريق" تعديل يعبر عن توجه أو عن رغبات شخصية محمومة لدى نائب أو رغبة من نائب في الظهور بمظهر البطل المنجز أو ردة فعل على حدث ما، أو انتهاز الحكومة لفرصة معينة لتمرير قوانين أغلبها ذات صفة قمعية ومناهضة للحريات. الأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما هو حديث "توه طالع من الفرن"، ومنها ما هو أقدم، ولكنها كلها تصب في فساد التشريع وإفساد المكان والزمان بالقانون، فمنها قانون تعارض المصالح والبصمة الوراثية وإعدام المسيء التي تم سلقها سلقاً وغيرها كالمرئي والمسموع وتخفيض سن الحدث والمشروعات الصغيرة وهيئة مكافحة الفساد وقانون الانتخاب وقانون الجنسية وقانون التجمعات وقانون العمل الخيري وقانون التشبه.
والسؤال: لماذا تتكرر عملية الاستهتار بالدستور والاستهتار بمصالح الناس من السلطة التشريعية، التي تشمل الحكومة بأعضائها الـ١٦؟ وهل صار القائمون على العملية التشريعية غير مؤهلين للتشريع؟ وهل صار لابد من الحجر عليهم ومنعهم من إتيان الإفساد للمجتمع بقوانين فاسدة الاستدلال وفاسدة المعنى والمبنى؟ الخطوة الأولى للإصلاح، إن كانت هناك نية للإصلاح، هي التوقف أولاً عن سلق القوانين بحجة الاستعجال إلا بظروف ضيقة جداً، فلماذا يحرصون على المداولتين في يوم واحد، مع أن الدستور أعطى فرصة للتداول والأخذ والرد؟ أما الخطوة الثانية فهي تعديل قانون المحكمة الدستورية لكي يصبح ممكناً لها إبداء رأي في القوانين قبل صدورها، بعد تداولها، ليس في الموضوع ولكن في مدى تطابق القانون مع الدستور.أظن أن المسألة تجاوزت تعديلاً هنا أو تعديلاً هناك، أو أمراً سقط سهواً أو استغلالاً لظرف سياسي وإدخال مادة متناقضة مع الدستور، بل صارت في حاجة إلى جلسة طارئة لمعالجة فساد التشريع، وكيفية التعامل معه، حيث إن التشريع الفاسد صار من ضمن "عاداتنا وتقاليدنا" فلا تسألوا حينها من أين يأتي الفساد التقليدي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أخر كلام
بين فساد التشريع وتشريع الفساد
28-03-2018