كنت أعتقد أن القضية حُسمت، وبعد أن تجهزت لإعلان موقفي من حقيقة دولة المؤسسات وجدت نفسي منجذباً بقوة السؤال نحو دائرة جديدة من الأسئلة الفلسفية والتاريخية التي تستحق أن أتشارك فيها مع غيري.في البداية كنت سأكتب أن دولة المؤسسات وهمٌ، وأن الأشخاص هم الأساس في الحفاظ على المؤسسات أو هدمها، والأمر لا يتوقف عند العالم المتأخر، ولكن حتى في الدول المتقدمة لا توجد هناك مؤسسات تدافع عن نفسها أو قوانين تتحول إلى مخلوقات خرافية تردع بالقوة كل من يخالفها، وجدت نفسي أتساءل: ما سر احترام الناس للدستور في دولة دستورها غير مكتوب وأعني بريطانيا؟ هل هو الوفاء أم هي المصلحة؟
لنبدأ مما يشغل أميركا العالم حاليا، وهو ظاهرة ترامب، وكيف وضعت دولة دستور ومؤسسات وحرية تعبير وقوى ضاغطة أمام اختبار حقيقي في كيفية الحفاظ على كل مكتسباتها، ومواجهة رئيس متحرر من كل القيود بما فيها حزبه السياسي تم انتخابه بطريقة ديمقراطية؟ لو أن القضية مرتبطة بالنصوص الورقية فقط لحرقها ترامب ولم يسأل فيها ولكن من يحمي الورق؟ توجد هناك ضمائر حية تمثل الوفاء وعقول متقدة تمثل المصلحة توافقا مع ضرورة الوقوف بوجه ظاهرة قد تدمر أميركا لو استمرت. هل سمعتم عن دول ما زالت "تحافظ" على قوانين كتبت من عهود سابقة ولا تزال سارية المفعول؟ بالتأكيد سمعتم عن أنظمة ملكية سقطت وجمهوريات حلت مكانها، ولكن شيئاً من النظام القديم لا يزال على قيد الحياة لأن "المصلحة" تتطلب ذلك، وعندما يتعلق الأمر بالمصلحة سنجد آلاف الحماة لدولة المؤسسات! هل تعلمون أن القانون الإداري الذي وضعه نابليون لا يزال ساري المفعول في فرنسا، وكذلك قانون إنشاء مجلس الدولة؟ إن نابليون لا يزال يتنفس في فرنسا بقوة المصلحة لا وفاء لذكراه، ومن الكويت هل تعلمون أن كل القوانين التي سبقت وضع دستور 62 بقيت ما عدا المخالفة له من حيث الموضوع؟إن القوانين تبقى ما لم تُلغ أو تُعدل لأن الإدارة تبقى والسياسة تتغير، والهدف تسيير مصالح العباد (المصلحة العامة) وأي تغيير في نظام الحكم لا يؤدي بطريقة آلية إلى إلغاء القوانين المعمول بها من قبل، وأي نظام جديد حتى لو جاء بعد ثورة أو انقلاب هو بحاجة ماسة (المصلحة) لوجود جهاز إداري يلبي من خلاله احتياجات الناس بكل أشكالها، لأن الناس في النهاية لا يعيشون على الشعارات وأطفالهم لا يرضعون البيانات.ختاماً أعتقد أن عدم ارتباط دولة المؤسسات بالمصلحة العامة المبنية على قوانين سليمة مجردة من المصالح لن يضمن لها البقاء إلا في مخيلة الحالمين، فليس في عالم البشر وفاء مضمون على الدوام، بل هناك مصلحة، ولا شيء غير مصلحة وأشخاص يدافعون عن مصالحهم من خلال الدفاع عن القانون ودولة المؤسسات.
مقالات
الأغلبية الصامتة: المصلحة... ولا غيرها
29-03-2018