رغم ما تعيشه البصرة على مستوى مجتمعها الحضري وطبقتها الوسطى وفئة الشباب، من انتعاش واضح في الثقافة والاقتصاد بشكل لافت لأنظار باقي العراقيين، فإن إدارتها الأمنية والسياسية لا تزال ضعيفة بدرجة تثير القلق وتبطئ دخول المستثمرين الراغبين دوماً في حجز مساحة داخل مركز صناعة النفط والميناء الوحيد للعراق والمدينة ذات المساهمة الثقافية والأدبية البارزة في الشرق الأوسط.

ويبرر البصريون ضعفهم السياسي طوال قرن من تاريخ العراق الحديث، بأنهم يشعرون بشيء من «الغربة» وسط مناخ الصراعات العراقية المعروفة بالشراسة والقسوة وأجواء التآمر وتدخلات الفاعلين الدوليين، ويفسرون ذلك بأن طباع أهل البصرة ليست عراقية خالصة، بوصفها مدينة بحرية تقترب في عاداتها ونمط حياتها من سواحل الخليج العربية فضلاً عما يجاورها من مؤثرات فارسية وهندية، ويستدلون على ذلك بعدم وجود مساهمة بصرية في ثورات العراق وانقلاباته، وحتى في صراعات السياسة المريرة منذ سقوط صدام حسين.

Ad

ومما يزيد شعور البصريين بالعزلة تضخم أعداد المهاجرين من جنوب البلاد الفقير، نحو أسواقها الكبيرة، واحتلالهم أغلب المناصب ومعظم التمثيل السياسي للمحافظة، وانخراط أبناء العشائر من أطراف الأهوار بكثافة في ميليشيات موالية لطهران، مما خلق واقعاً مسلحاً يطوق المدينة كلها، فضلاً عن إغراق المهربين لها بالمخدرات القادمة من إيران.

ويتمسك البصريون بمؤشرات تفاؤل منذ وصول حيدر العبادي إلى السلطة، بوصفه جزءاً من محاولة إصلاح واعدة، كما يراهنون على الحضور المتزايد للشركات الغربية والآسيوية في قطاعات الإنتاج النفطي، وأيضاً في استثمارات السياحة والتجارة مؤخراً، لكن البصرة رغم ذلك بقيت بلا هوية سياسية أو حزب يمثلها، بعد فشل محاولات عديدة لصناعة تيار سياسي محلي يطالب بتحويلها إلى إقليم بصلاحيات لامركزية على غرار كردستان العراق في الشمال.

ولم تظهر في قوائم انتخابات مايو المقبل، تيارات بصرية قوية، ما اضطر خبراءها التكنوقراط والشخصيات المحلية التي تتمتع بشعبية جيدة إلى الانخراط في قوائم أحزاب بغداد والنجف، كما قامت هذه الأحزاب بنقل العديد من المرشحين البصريين البارزين إلى ماراثون الانتخابات الأصعب في العاصمة لاستثمار شعبيتهم.

وحتى مسيحيو البصرة ظلوا منقسمين بشدة بين أربع قوائم انتخابية وعشرات المرشحين، بينما لا يزيد عددهم حسب تقديرات الكنيسة، على ألف عائلة فقط، مقارنة بـ15 ألف عائلة مسيحية قبل حرب الثمانينيات.

ويعترف ساسة بصريون، يعملون مع الأحزاب الكبرى، بأن ساسة بغداد والنجف النافذين، يمنعون ظهور قيادة بصرية قوية في مواقع القرار داخل الإدارة المحلية التي تتحكم في ثروات طائلة وتصدر ما قيمته نحو 90 مليار دولار من البترول سنوياً، وغالباً ما كان منصب المحافظ محل صراع ينتج عنه تقديم مرشح تسوية ضعيف بينما تحتاج المدينة المعقدة إلى كفاءة إدارية بصلاحيات «رئيس وزراء» على حد تعبيرهم.

وقدم رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وعوداً كثيرة إلى أهل البصرة مقابل تخليهم عن نزعة الاستقلال بصيغة إقليم، كما بذل زعماء دينيون جهوداً واضحة لتخفيف هذه النزعة مخافة أن تؤدي إلى خسارة العراق للبصرة التي تمده بمعظم الثروات، لكن محاولاتهم في صناعة «تسوية» لصراع الأحزاب على المدينة بقيت بلا طائل.

ولم يتجرأ رئيس الحكومة حيدر العبادي على تحقيق تحول جدي في المدينة لكنه ظهر اليوم بقائمة انتخابية فيها توصف بأنها الأقوى حيث ضمت أسماء مهمة وشخصيات تكنوقراط وواجهات مدنية وليبرالية حسنة السمعة بين «البصاروة»، كما شكّل لجنة عليا للتطوير، يترأسها بنفسه، وتضم مجلساً استشارياً واسعاً بخبرات محلية وأجنبية، في مؤشر إلى أن منصب المحافظ سيبقى بعيداً عن التأثير بنحو ملموس.