يوم أرض مجيد وعطاء شعب عظيم
مرة أخرى اجترح الشعب الفلسطيني، وخصوصا أبناءه وبناته البواسل في قطاع غزة الصامد، مأثرة شعبية مذهلة، مئات الآلاف من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال خرجوا في مسيرات شعبية ليؤكدوا تمسك الشعب الفلسطيني بأرض وطنه، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي هجروا منها، ومرة أخرى تأكدت في يوم الأرض وحدة نضال الشعب الفلسطيني بتوازي الفعاليات النضالية في أرض 1948 وفي الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة وحيثما وجد أبناء الشعب الفلسطيني في المهاجر. يوم الأرض كان كالعادة رمزا لوحدة الفلسطينيين التي تجسدت في ميدان النضال متجاهلة الانقسام السياسي والصراع على سلطة، كلها تحت الاحتلال، لكن يوم الأرض هذا العام كان يوم مجد للمقاومة الشعبية، كفكرة ونهج وممارسة نضالية، بعد أن تبنتها كل القوى الوطنية والإسلامية وأدركت مدى فاعليتها وتأثيرها. وبعد ستة عشر عاما من انطلاق شرارتها الأولى ضد جدار الأبارتهايد العنصري وتعمق محتواها بالتظاهرات ضد الاستيطان، وبسفن كسر الحصار على قطاع غزة، وقرى المقاومة مثل باب الشمس وأحفاد يونس والمناطير، وبحركة المقاطعة ضد المنتجات الإسرائيلية، وبالهبة الشعبية التي أجبرت نتنياهو على التراجع عن إجراءاته في القدس ضد المسجد الأقصى، وبتباشير المظاهرات الأولى على حدود قطاع غزة، وصلت المقاومة الشعبية ذروة جديدة بما حققته المشاركة الشعبية الشاملة في قطاع غزة في مسيرة يوم الأرض والعودة.
ولا شك أن التبني الواعي والمنظم للمقاومة الشعبية يمثل علامة نضج نضالي لدى مجمل الحركة الوطنية الفلسطينية وتحديا في الوقت نفسه لكل القوى الفلسطينية كي تشارك بكل طاقتها فيها، باعتبارها أهم أسس الاستراتيجية الوطنية الفلسطينية لتغيير ميزان القوى الى جانب حركة المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل. وقد أكدت البطولة والبسالة التي أبدتها جماهير الشعب الفلسطيني رغم استشهاد ستة عشر فلسطينيا وجرح أكثر من 1800 في يوم واحد، الرفض الشعبي الشامل لقرارات إدارة ترامب حول القدس ولصفقة القرن الرامية إلى تصفية قضية الشعب الفلسطيني ومشاريع التطبيع الخبيثة على حساب الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية. وكان التمسك بحق العودة وممارسته هو الرد على مساعي إدارة ترامب لخنق وكالة الغوث كوسيلة لتصفية حقوق اللاجئين الفلسطينيين، كما أكدت هذه الجماهير، وجود بديل فعلي نضالي لما فشل من مراهنة على المفاوضات وعلى النهج الذي أدى إلى اتفاق أوسلو. وإذ كانت إسرائيل قد أصيبت بالرعب من العودة الظافرة لمظاهر الانتفاضة الشعبية الأولى، وبعد أن اهتزت أركانها بالمعلومات عن أن عدد الفلسطينيين قد تجاوز عدد اليهود الإسرائيليين على أرض فلسطين التاريخية، فإن ما قامت به قواتها بقيادة رئيس أركان جيشها ايزنكوت، بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العزل الذين تظاهروا سلميا، مثل فضيحة كبرى وجريمة حرب لا تغتفر، فلم يكن استخدام الرصاص الحي دليل قوة بل كان مظهرا لعجز وضعف الجانب الإسرائيلي في محاولاته منع المسيرة الشعبية وفشله الماحق في ردعها. ولا بد هنا من توضيح مدى كذب الرواية الإسرائيلية التي ادعت أن الشهداء والجرحى أصيبوا وهم يحاولون اجتياز سياج قطاع غزة، إذ رأى الجميع أنهم أصيبوا وهم داخل ما يسمى المنطقة العازلة داخل قطاع غزة، والتي فرضها جيش الاحتلال ولا تقل مساحتها عن 24% من قطاع غزة، علما أن من حق الغزيين اجتياز السياج كي يصلوا الى قراهم ومدنهم التي هجروا منها كالمجدل، وحمامة، والمسمية وغيرها. القناصة الإسرائيليون لم يقصروا جرائمهم على قطاع غزة، إذ واجهوا تظاهرتنا في رام الله أمام مستعمرة بيت أيل، والمظاهرات الأخرى في الضفة الغربية بالأسلوب نفسه، وإذا كان النجاح الباهر ليوم الأرض ولمسيرة العودة رغم الخسارة الباهظة في أرواح الشهداء وإصابات الجرحى الذين سقط معظمهم في قطاع غزة يمثل بداية لحراك سيستمر ومقاومة شعبية ستتصاعد، فإنه يجب أن يكون حافزا للقادة السياسيين كي يترجموا الوحدة الميدانية الكفاحية إلى إنهاء شامل وكامل للانقسام، ولتحقيق الوحدة الوطنية القائمة على الشراكة الحقيقية والكفاح المشترك. وقد أكدت بطولة أهل غزة ضرورة مساندة الجميع لهم، وتحريم أي شكل من أشكال المس بهم، كما أن ما جرى يجب أن يترجم إلى إحالة فعلية فورية للجنود والضباط الإسرائيليين المجرمين وعلى رأسهم رئيس الأركان الإسرائيلي إيزنكوت إلى محكمة الجنايات الدولية.أما الأطراف والحكومات الأجنبية التي ساوت بين الجلاد والضحية، ولم تعلق على ما جرى إلا بمطالبة الطرفين بضبط النفس، فلا بد أن نذكرها بالمحاضرات والنصائح التي طالما تشدق بها ممثلوها حول ضرورة أن يقوم الفلسطينيون بمسيرات سلمية صخمة بالآلاف، وها هو الشعب الفلسطيني قد فعلها بمئات الآلاف، فهل سنرى هذه الحكومات تفرض على إسرائيل أي شكل من العقوبات لبطشها الوحشي بالمتظاهرين العزل؟وبغض النظر عما سيفعلونه فإن الشعب الفلسطيني قد استعاد وعي الانتفاضة الشعبية الأولى، واستعاد الإدراك بأن اعتماده الأول يجب أن يكون على نفسه، وأن السبيل للنجاح هو في تنظيم النفس، وتحدي إجراءات وقرارات منظومة الاحتلال والأبارتهايد، ومقاومتها. الخلود لشهدائنا البواسل، والشفاء العاجل لجرحانا، وكل الاحترام لشعبنا، وخصوصا شعب غزة الذي أثبت عظمته مرة أخرى. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية