يقرر الفقه الجنائي أن غموض النص العقابي يعني أن يكون مضمونه خافياً على أوساط الناس باختلافهم حول فحواه ومجال تطبيقه وحقيقة ما يرمي إليه.وقد خفي مضمون «حظر تعارض المصالح» لا على أوساط الناس وحدهم، بل على المشتغلين بالقانون بعد الجدل الصاخب حوله، الذي لم يسلم فيه هذا القانون من الانتقادات، الأمر الذي ألزمني بعقد هذه الدراسة، بعد مقالي الذي نشر في صفحات «الجريدة» يوم 25 مارس الماضي تحت عنوان: «جعلوني مجرماً في قانون حظر تعارض المصالح».فيما نصت عليه المادة 50 من الدستور من أن نظام الحكم يقوم على أساس فصل السلطات مع تعاونها، وفقا لأحكام الدستور، ولا يجوز لأي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصها المنصوص عليه في هذا الدستور.فقد نزل أعضاء مجلس الأمة عن اختصاصهم بالأحكام التي نصت عليها المادة 121 من الدستور، ذلك أن اختصاص السلطة الذي لا يجوز النزول عنه ليس قصرا على ما تمارسه من صلاحيات، بل على ما اختصها به الدستور من أحكام تتعلق بواجبات الأعضاء والأعمال المحظورة عليهم، عندما أقر أعضاء المجلس بالإجماع قانون حظر التعارض الذي ينص في المادة 2 على أن: يخضع لأحكام هذا القانون من في حكم الموظف العام المنصوص عليهم في المادة 43 من القانون رقم 31 لسنة 1970.وفيما نصت عليه المادة 10 من القانون، بأن اللائحة التنفيذية تنظم ضوابط وقواعد السلوك العام الواجب تطبيقها على الخاضعين للقانون، بما يحقق النزاهة والشفافية، تصدر اللائحة التنفيذية طبقا للمادة 19 من القانون بمرسوم سوف يصدر بعد موافقة مجلس الوزراء، وذلك بالمخالفة للمادة 117 من الدستور التي نصت على أن "يضع مجلس الأمة لائحته الداخلية" ليكون المجلس سيد قراره في تنظيم سير العمل به، وفي تفصيل ما أجمله الدستور من صلاحيات للمجلس ومن صلاحيات أعضائه.وكان أول من نبه الى هذه المخالفة الدستورية السيد أحمد باقر، في مقاله المنشور على صفحات "الجريدة" يوم 26 مارس الماضي، والذي قال فيه إن الحكومة هي التي ستضع بذلك قواعد السلوك العام لنواب الأمة.ولئن كنا نتفق مع سيادته في أن المادة 117 من الدستور، التي فوضت المجلس في وضع لائحته الداخلية، لم تسعفه وغيره من الأعضاء في إقرار الاقتراحات المقدمة منهم لإنشاء لجنة قيم لأعضاء المجلس، ولئن كان الجدل حول هذا الأمر واردا، إلا أن تطبيق هذا القانون على نواب الأمة مسألة ذات خطر كبير، لأنه ينطوي على تنقيح فعلي للدستور، فالمادة 121 من الدستور عالجت بشكل واضح ومحدد وقاطع حالات تعارض المصالح بالنسبة إلى أعضاء مجلس الأمة، بما لا يجوز معه لقانون هو أدنى مرتبة من الدستور أن يعيد تنظيم هذه المسألة بالنسبة إلى النواب بما يلغي ما أباحته هذه المادة من حالات في الوقت الذي يجرمها قانون حظر التعارض، ويعتبر النواب وفقا لها في حالة تعارض، مرتكبين لجريمة فساد.
وتتمخض هذه الدراسة بحثاً في عدم دستورية هذا القانون في أغلب نصوصه التي وقعت في حومة مخالفة نصوص الدستور وروحه وتداعيات ذلك على الاقتصاد الوطني، وعلى المشتغلين بالعمل العام، وما يمكن أن يؤول اليه تطبيقه من شلل الجهاز الإداري للدولة عن النهوض بالكويت إلى مستقبل أفضل ينعم فيه الوطن بمزيد من الرفاهية والمكانة الدولية التي سعى إليها الدستور.وحتى يتسق لهذه الدراسة ما ينبغي أن تكون عليه من إحاطة كاملة بكل أحكام القانون – محل هذه الدراسة - رأيت تقسيمها إلى مباحث أربعة على النحو التالي:
المبحث الأول
قانون حظر تعارض المصالح تنقيح للدستور لم يلتفت مشروع قانون حظر التعارض إلى أن الدستور هو الوعاء الطبيعي لما يفرض على النواب من أعمال والتزامات، وما هو محظور عليهم من ذلك، عندما أخضع المشروع نواب مجلس الأمة لأحكامه بموجب تعريفه الموارد في المادة الأولى للشخص الخاضع: الفئات المنصوص عليها في المادة (2) من هذا القانون من موظفي الدولة ومن في حكمهم.وبموجب المادة (2) من هذا القانون، يخضع لأحكامه الموظفون في الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة، ومن في حكم الموظف العام المنصوص عليهم في المادة (43) من القانون رقم (31) لسنة 1970 المعدل لقانون الجزاء، أو من تسري عليهم أحكام القانون رقم (2) لسنة 2016 المشار إليه.وقد غض مشروع قانون حظر التعارض النظر عن الحظر المفروض على النواب بموجب المادة 121 وما أباحته هذه المادة للنواب من أعمال اقتضاها واقع الكويت، حيث للتجارة والنشاط الخاص الصدارة.وقد جاءت أحكام هذا المشروع فضفاضة في حالات التعارض التي جرمتها، ناسخة لما أباحه الدستور ومذكرته التفسيرية من أعمال من حق أعضاء مجلس الأمة ممارستها، بما ينطوي على تنقيح للمادة (121) من الدستور، ونسخ لأحكامها، فإلغاء الحكم كما يكون صريحا يكون ضمنيا وهو ما أوقع القانون في حومة مخالفة المادة (174) من الدستور فيما حددته من إجراءات وأوضاع لتنقيح الدستور.ولا وجه للاحتجاج في ذلك بأن أحكام قانون حظر التعارض هي أحكام عامة، وأن أحكام المادة (121) هي أحكام خاصة، وأن الحكم الخاص يقيد الحكم العام ولو كان العام لاحقا، ذلك أن هذا القول مردود عليه بأن مشروع قانون الحظر قد نص صراحة في المادة (2) على إخضاع أعضاء مجلس الأمة لحكمه العام، فلا محيص من سريانه عليهم.إلا أن الاحتجاج بأن الحكم الخاص يقيد الحكم العام يكون صحيحاً بالنسبة إلى الحظر المفروض على الوزراء وما يباح لهم استثناء من هذا الحظر إعمالا لأحكام المادة (131) من الدستور، باعتبارها أحكاما خاصة تقيد من الأحكام العامة الواردة في قانون حظر التعارض، فلا تسري على الوزراء أحكام قانون حظر التعارض، أما هذا القانون فقد نص صراحة على إخضاع نواب الأمة لأحكامه.وسيظل هذا القانون محمولا على الصحة فيما نص عليه من سريانه على النواب إلى أن تقضي المحكمة الدستورية بعدم دستوريته.ونتناول فيما يلي الحظر المفروض على الوزراء، والحظر المفروض على النواب، والأعمال المتاحة لكليهما استثناء من هذا الحظر وذاك.أولاً: الحظر الدستوري على الوزراءتحظر المادة (131) من الدستور على الوزير أثناء توليه الوزارة أن يلي أي وظيفة عامة أخرى أو أن يزاول، ولو بطريق غير مباشر، مهنة حرة أو عملا صناعيا أو تجاريا أو ماليا، كما لا يجوز له ان يسهم في التزامات تعقدها الحكومة أو المؤسسات العامة، أو أن يجمع بين الوزارة والعضوية في مجلس إدارة أي شركة.ولا يجوز له خلال تلك المدة كذلك أن يشتري أو يستأجر مالا من أموال الدولة ولو بطريق المزاد العلني، أو أن يؤجرها او يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه.استثناء من الحظر
إلا أن المذكرة التفسيرية للدستور، في تفسيرها لنص هذه المادة - وهو تفسير ملزم - تقرر أن هذا النص لا يمنع من أن تكون للوزير أسهم أو سندات أو حصص في شركة تتمتع بالشخصية المعنوية مع ما تستتبعه هذه الشخصية من انفصال عن اشخاص المساهمين وحملة السندات والحصص، واتباع للإجراءات والضوابط القانونية المقررة من حيث إدارة الشركات، وتوزيع الأرباح فيها وخضوعها لرقابة الدولة.ثانياً: الحظر الدستوري على النواب1 - فيما نصت عليه المادة (121) من الدستور من حظر في فقرتها الأولى من انه لا يجوز لعضو مجلس الأمة اثناء مدة عضويته أن يعين في مجلس إدارة شركة.المذكرة التفسيرية
وفي تفسير المذكرة التفسيرية لأحكام هذا الحظر، وهو تفسير ملزم، تقرر المذكرة أن المحظور هو التعيين أثناء مدة العضوية، فإن كان التعيين سابقا على العضوية النيابية فلا مانع دستوريا من الاستمرار في عضوية مجلس الإدارة بعد الفوز بعضوية مجلس الأمة، لأن المادة لم تجعل من هذه الحالة حالة "عدم جمع" (كما هو الشأن في المادة (131) الخاصة بالوزراء) بل جعلتها حالة حظر مقيد بفترة معينة.وإن هذا التفريق في الحكم بين عضو مجلس الأمة والوزير منطقي، نظرا لأن العضو لا يمارس سلطة تنفيذية، بل يؤدي مهمة تمثيلية ورقابية، في حين يمارس الوزير تلك السلطة ويتولى رئاسة العمل الإداري في وزارته، وبقدر السلطة يكون الحذر ويكون الحرص على دفع مظنة الانحراف بالنفوذ أو إساءة استعمال السلطة.2 - وفيما نصت عليه المادة 121 من حظر في فقرتيها الأولى والثانية من أنه: لا يجوز لعضو مجلس الأمة خلال مدة عضويته أن يسهم في التزامات تعقدها الحكومة أو المؤسسات العامة.ولا يجوز له خلال تلك المدة كذلك أن يشتري أو يستأجر مالا من أموال الدولة، أو أن يؤجرها أو يبيعها شيئا من أمواله أو يقايضها عليه.استثناء من الحظر
إلا أن هذه المادة أوردت استثناء من هذا الحظر فيما نصت عليه، من انه ما لم يكن ذلك بطريق المزايدة أو المناقصة العلنيتين أو بالتطبيق لنظام الاستملاك الجبري.المذكرة التفسيرية
وتوضح المذكرة التفسيرية الحكمة من ذلك بأن "للتجارة مكان الصدارة في أعمال المواطنين، وحيث تتدخل الحكومة إلى حد كبير في المشروعات وأوجه النشاط الاقتصادي، الأمر الذي لزم معه تخفيف قيود العضوية في هذا الخصوص، بحيث لا يمنع العضو من مزاولة مهنته الحرة أو عمله الصناعي أو التجاري أو المالي، كما لم يحظر عليه التعامل مع الدولة بطريق المزايدة أو المناقصة العلنيتين، أو بالتطبيق لنظام الاستملاك الجبري، وذلك بمراعاة أن في هذه الاستثناءات من النظام الجبري القانوني ما يكفل عدم استغلال النفوذ وينفي مظنة الانحراف.ثالثا: مخالفة مبدأ الفصل بين السلطاتصورة ضوئية من خبر «الجريدة» عن مخالفة القانون للدستور
جرائم الرشوة واستغلال النفوذ
إضفاء صفة الموظف العام على نواب مجلس الأمة في قانون حظر التعارض بالإحالة على تعريف الموظف العام في المادة 43 من القانون رقم 31 لسنة 1970 قد أحل هذا التعريف في غير محله، وأورده في غير مورده، فالمادة 43 السالفة الذكر تنص على هذا التعريف في تطبيق هذا الفصل من هذا القانون الذي وردت فيه المادة، وهو الفصل (الأول) من هذا القانون، والوارد تحت عنوان "الرشوة واستغلال النفوذ".وهو الفصل الذي يتناول بالتجريم والعقاب جرائم الرشوة واستغلال النفوذ المنصوص عليها في المواد من 35 إلى 42 من القانون رقم 31 لسنة 1970 سالف الذكر، وكلها تتناول بالتجريم والعقاب أفعالا واضحة محددة المعالم والأركان في الرشوة، ولا يعاقب على استغلال النفوذ إلا إذا كان متزنا برشوة توفر ركناها المادي والقصد الجنائي عاما وخاصا.أما تعارض المصالح المحظور فهو ليس مدانا في ذاته في كل التشريعات الجزائية في العالم إلا اذا اقترن بفعل أو امتناع عن فعل يدخل في واجبات الموظف، وهو ما تقرره مدونة الاتحاد الأوروبي، وكذلك مدونة الأمم المتحدة في هذا السياق، حيث تقرر المدونة النموذجية للاتحاد الأوروبي أن تضارب المصالح حقائق بسيطة في الحياة تظهر في النشاط العادي لأي موظف عمومي، فتعارض المصالح ليس هو المدان في حد ذاته، ولكن الافتقار إلى النزاهة من الموظف العمومي عندما واجه مثل هذه الحالة، فقرر إخفاء مصالحه الشخصية واستمر في التصرف على نحو سبب الضرر للمصلحة العامة.المدونة الدولية لقواعد سلوك الموظفين العموميين
توجب المدونة النموذجية للاتحاد الأوروبي التي اعتمدتها لجنة وزراء مجلس أوروبا في الحادي عشر من مايو عام 2000 على الموظف العام أن يكون منتبها لأي تضارب في المصالح فعلي أو محتمل، باتخاذ الخطوات لتفادي مثل هذا التضارب، وأن يكشف للمراقبين عن هذا التضارب حالما أصبح على علم به مع الانسحاب من الوضع الذي يسبب التضارب في أي وقت يطلب منه.وتوجب المدونة الدولية لقواعد سلوك الموظفين العموميين التي اعتمدتها الأمم المتحدة في 2/ 12/ 1996 على الموظفين العموميين أمرين:أولهما: الإفصاح عن الأعمال والمصالح التجارية والمالية أو الأنشطة التي يضطلعون بها، والتي قد تثير حدوث تضارب محتمل في المصالح، وفي حالات حدوث هذا التضارب يتخذون الإجراء اللازم للقضاء عليه.ثانيهما: امتثال الموظفين للتدابير المنصوص عليها في القانون أو من قبل السياسات الإدارية، مع التأكيد بأنهم بعد تركهم مناصبهم الرسمية لن يستفيدوا بصورة غير لائقة من مناصبهم السابقة.وغني عن البيان أن روح الدستور فيما نصت عليه المادتان 121 و131 من أعمال مباحة لوزراء وأعضاء مجلس الأمة إنما تملي على المشرع في هذا القانون أن تكون مباحة أيضا لكل الخاضعين لأحكامه إعمالا بالمادة 29 من الدستور، فيما نصت عليه من أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، ومتساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات العامة.إلا أن قانون الحظر قد خالف روح الدستور بأن عاقب وجرم الخاضع للقانون ولو كانت المصلحة أو الفائدة التي عادت عليه مشروعة، على خلاف التفرقة، التي أقامها الدستور في المادتين 121 و131 اللتين أباحتا ما هو مشروع من مصالح تعود على النواب أو الوزراء وهو ما سندلل عليه في المباحث التالية.