الدينار أولاً
الثقافة الاستهلاكية واقعٌ مُدمّر نعيشه دون أن نلحظ تأثيره لشدة انغماسنا فيه، فمنذ لحظة استيقاظنا وحتى نهاية اليوم نتعرض لوابل من الإعلانات بمختلف صورها التي تعيد تشكيل قناعاتنا وتحفزنا على المزيد من الاستهلاك، فهناك الإعلان المباشر الفج المفرط في مباشرته تراه على لوحات الإعلان العملاقة في الشوارع كل بضعة أمتار، ومقاطع الفيديو الصادمة على وسائل التواصل الاجتماعي التي تتعمد أسلوب الإثارة لحشد المزيد من المتابعين، كل هذا القبح ينحدر بالثقافة العامة، فتنقلب المعايير، ويصبح الإسفاف مقبولاً بل مرغوباً.وهنالك الإعلان غير المباشر الذي يروج لنمط حياة "lifestyle" معين يتطلب الكثير من الإنفاق والبذخ، ويتم تهميش كل من لا يتّبع هذا القالب الضيق وممارسة الضغط عليه من قبل تلك الشركات الكبرى والمجتمع غير الواعي.والمؤسف فعلاً هو تشييء الناس لأنفسهم وعرضها كسلعة ووسيلة لكسب المال كـ"الفاشنستات" و"مؤثري" وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك بغض النظر عن جودة المنتجات المعروضة أو رداءتها، فجشع الشركات أدى إلى جشع الأفراد وتحويل جل اهتمامهم نحو المكسب المادي.
إن الثقافة الاستهلاكية تسحق النفوس وتجعلها في لهاث مستمر وراء اللاشيء المتمثل بجمع المزيد من المقتنيات والأموال من أجل ذاك الوعد البعيد بالإشباع والسعادة، لكن هذا الوعد لن يكتمل يوماً، فلن يتحقق شيءٌ سوى الخواء. وامتد تأثير الثقافة الاستهلاكية إلى العلاقات الإنسانية، فأصبح يستهلك بعضنا بعضاً في علاقات هشة سهلة الاستبدال وسريعة العطب.هذه هي نواتج الرأسمالية الجديدة، فهي تضع الدينار أولاً والإنسان أخيراً، وتعتمد تغييب العقول وحصر اهتماماتها بالتافه والسطحي كي تسهل قيادتها. لذا لابد من أن ندعم ونشجع– بل نقوم بأنفسنا- بتلك الأنشطة الإنتاجية المثمرة التي ترتقي بالإنسان كالعلم والفن والثقافة والرياضة، قبل أن تتآكل أرواحنا، ولا بد من أن تهيئ السلطات الأجواء الأريحية كي ينمو الإبداع، بعيداً عن سياسة القمع والمنع."لم نعد نعيش الحياة؛ نحن نستهلكها". (فيكي روبن)