«أنت كمشروع سياسي تعيش في مرحلة إنكار»... صارت هذه الكلمات تشكّل اليوم جزءاً لا يتجزأ من مفردات الاتحاد الأوروبي بفضل خطاب نايجل فراج في البرلمان الأوروبي عقب استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي... إليك ما قصده فراج: رغم خروج بريطانيا، يأبى الاتحاد الأوروبي الإقرار بأن عملية المركزية التي يطبقها تخطت كل الحدود.

كان فراج محقاً آنذاك، وما زال كذلك اليوم، رغم مخاوف الإفراط في مركزية كفاءات الاتحاد الأوروبي، اكتفت بروكسل بمواصلة تدعيم سلطتها، وانتقلت اليوم إلى التشكيك في مبدأ الإجماع الذي يستوجب موافقة كل الأمم على قرارات السياسة الخارجية، حتى إنها تبني جيشاً أوروبياً.

Ad

لكن رأي شعوب أوروبا مختلف تماماً، إذ يشير استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث إلى أن 58 في المئة من الناس في اليونان، و57 في المئة في إيطاليا، و61 في المئة في فرنسا، ونصف الألمان، و61 في المئة في إسبانيا يقولون إنهم يفضلون إجراء استفتاءات بشأن عضوية أممهم في الاتحاد الأوروبي. ولكن لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن أقليات صغيرة في هذه الدول تريد حقاً الانفصال عن الاتحاد الأوروبي: حتى في بولندا التي تتعرض لضغوط كبيرة من بروكسل، لم يرتفع العداء للوحدة الأوروبية سوى 10 في المئة.

استعادة الثقة

لم تشمل إستراتيجية الاتحاد الأوروبي لاستعادة ثقة شعوبه إعادة النظر في عملية الاندماج السياسي، بل سعت إلى تعزيزها، ويؤيد شعار «المزيد من أوروبا» هذا أيضاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. تميزت مداخلات ماكرون في المجلس الأوروبي بمطالبته بما دعاه «الضريبة الرقمية» على شركات مثل غوغل، أمازون، وفيسبوك، فضلاً عن دعوته إلى تعيين «وزير مالية لمنطقة اليورو» ووضع موازنة للدول التسع عشرة التي تتشارك في عملة اليورو الموحدة.

كي يحقق أحلامه الأوروبية، يحتاج ماكرون إلى أمرين، أولاً، يحتاج إلى ألمانيا، ولطالما حددت الصداقة الفرنسية- الألمانية نطاق الاتحاد الأوروبي، فإذا اتفقت باريس وبرلين على مسألة ما، تحذو بروكسل حذوهما. وبما أن ألمانيا تخضع اليوم لإدارة ائتلاف حاكم انتهازي بالكامل لا أهداف له، فلن يواجه ماكرون على الأرجح أي صعوبة في الحصول على مبتغاه. نتيجة لذلك، يضطلع ماكرون اليوم بدور قائد أوروبا غير الرسمي. وتتضح راهناً الهيمنة الفرنسية المفاجئة على الوضع السياسي في باريس وبرلين على حد سواء، فقد أخبر وزير الخارجية السابق زيغمار غابرييل الصحافة الألمانية: «بأن فرنسا تسيطر على ألمانيا في مبادرات الاتحاد الأوروبي بمعدل 10 إلى 0». في الوقت عينه، نقلت صحيفة «لو فيغارو» عن وزير في الحكومة الفرنسية قوله إن «ماكرون سلطة شابة وقوية، في حين أن ميركل سلطة ضعيفة وهشة».

أما الأمر الثاني الذي يحتاج إليه ماكرون فهو إسكات الأصوات المناهضة للوحدة الأوروبية، وقد بدأ العمل على هذا الهدف بطلبه من الدول الأعضاء تنظيم مناظرات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي خلال السنوات العشر إلى الخمس عشرة المقبلة. قبلت حتى اليوم 25 دولة بالمشاركة، لكن هذه الخطوة نحو نزع فتيل معارضة الوحدة الأوروبية قد تؤدي بكل سهولة إلى نتائج عكسية، فقد رفضت دول مثل هولندا والدنمارك مبادرات سابقة للاتحاد الأوروبية عندما عُرضت عليها في استفتاءات، إذ عطلت هولندا، مثلاً، الدستور الأوروبي عام 2005 واتفاق شراكة الاتحاد الأوروبي مع أوكرانيا عام 2016، أما الدنمارك، فصوتت ضد معاهدة ماستريخت عام 1992 وعارضت الانضمام إلى منطقة اليورو عام 2000. كذلك أظهرت استطلاعات الرأي الدنماركية أن الدستور الأوروبي كان سيخفق على الأرجح لو طُرح للتصويت في استفتاء. لذلك ألغت الحكومة الموالية للاتحاد الأوروبي التصويت وتبنت الاقتراح من خلال برلمانها. بالإضافة إلى ذلك، بما أن بروكسل تكيل اليوم الانتقادات لدول مثل هنغاريا وبولندا وقد تفرض عليها عقوبات، فقد لا تتلقى كل الدول الأعضاء الجانب المؤيد للاتحاد الأوروبي برحابة صدر.

يستعد بعض حلفاء ماكرون في بروكسل، أمثال رئيس الوزراء التشيكي أندريه بابيس، لتداعيات معارضة الوحدة الأوروبية المتنامية، إذ يدعم بابيس تشريعاً يصعّب جداً تنظيم استفتاء بشأن عضوية الاتحاد الأوروبي برفع عتبة الأصوات الضرورية لعقد استفتاء مماثل. تقترح حكومته ضرورة الحصول على 850 ألف صوت لإجراء الاستفتاء وتأييد نصف مَن يحق لهم التصويت للإقدام على هذه الخطوة. ومع عدد سكان يبلغ نحو 10 ملايين نسمة ومعدل إقبال على صناديق الاقتراع يصل إلى 50 في المئة تقريباً، يحرص بابيس على وضع كل العقبات الممكنة أمام احتمال خروج الجمهورية التشيكية من الاتحاد الأوروبي، مع أن هذا الخروج يظل ممكناً على الورق، ولكن إذا كان هذا «عرض الحوار» الذي يقترح داعمو الاتحاد الأوروبي، فلن تقبله الشعوب على الأرجح.

الملك الشمس

بما أن ماكرون يعمل راهناً على تطبيق خططه للإصلاح ولا نية لديه لطرح أي من التغييرات المعلنة على التصويت الشعبي، فإن موقفه وصورته في أوروبا دفعا وسائل الإعلام إلى التهليل لنفوذه، فقد وصفه موقع DW.com بـ«الملك الشمس» أو «Hoffnungsträger» (تعني بالألمانية «حامل الأمل»)، حتى أن أحد أعداد مجلة «ذي إيكونومست» في شهر يوليو صوّره وهو يمشي فعلياً على الماء.

لا شك في أن ماكرون يعيش على أمل أن يصبح القائد الوحيد في أوروبا الذي يتمتع بتأثير في القارة بأسرها، لكن الاضطرابات السياسية في دول مثل بولندا وإيطاليا، فضلاً عن تحفظ دول صغيرة مثل مالطا، هولندا، والدنمارك، قد تشكل حجر عثرة في طريق إصلاحاته. صحيح أن هذه الإصلاحات قد تُرى كوسيلة لمنح الاتحاد الأوروبي بداية جديدة، إلا أنها قد تشعل أيضاً ناراً أخرى تؤجج الحركة المناهضة للوحدة الأوروبية.

لعل أبرز ما نعرفه عن ملوك فرنسا في أوروبا أنهم يميلون إلى المبالغة في تقدير الدعم الذي يحظون به بين عامة الشعب، ولكن من المهم دوماً أن تحرص على ألا تصبح مهووساً بأفكارك الخاصة.