«سقوط الموصل» في منتدى الإعلام العربي
ما علاقة معركة "سقوط الموصل" الشهيرة، التي جرت وقائعها في شهر يونيو من عام 2014، بمنتدى الإعلام العربي، الذي نظمه نادي دبي للصحافة، بنجاح واقتدار معتادين، خلال الأسبوع الماضي؟لقد اختار منظمو المنتدى، في دورته السابعة عشرة، عنواناً موفقاً هو: "تحولات إعلامية مؤثرة"، كما صاغوا عناوين الجلسات الرئيسة والفرعية بشكل متسق ومتكامل، بهدف الوصول، من خلال الخبراء والمختصين المشاركين، إلى لوحة تجسد ملامح المجال الإعلامي العالمي والعربي في ظل ثورة التقنية والاتصالات، من دون أن يغفلوا التأثيرات الخطيرة لتلك الثورة على المحتوى الإعلامي، والمصلحة العامة، والجمهور.وفي هذا الإطار، كان مطلوباً من كاتب هذه السطور أن يتحدث في الجلسة الأولى من جلسات "20 دقيقة"، التي أرادها المنظمون حصة تفاعلية، تلقي الضوء على جانب من جوانب تلك الثورة المندفعة، عبر المشاركة والعصف الذهني، في ظل حضور أكثر من ألفين من الخبراء والمهنيين والمتخصصين في المجال الإعلامي، من دول العالم المختلفة.
كان عنوان تلك الجلسة "تحولات إعلامية قادمة"، في حين كان هدفها الرئيس هو توضيح أن "المستقبل لا تصنعه التطورات التقنية والاتصالية فقط"، وأن تلك التطورات يمكن أن تكون خطيرة وسلبية، إذا لم نستخدمها بشكل رشيد، يخلط بين طاقاتها المندفعة والمتسارعة والمدهشة من جانب، وبين الحس الإنساني، والخبرات، والمسؤولية الاجتماعية من جانب آخر.وللبرهنة على تلك الفرضية، استشهد كاتب تلك السطور، بما توصل إليه الباحث الأميركي "توماس نيشن" Thomas Nissen، في كتابه "تسليح السوشيال ميديا" The Weaponization of Social Media ، الصادر في عام 2016، حين رأى أن تلك الوسائط الجديدة باتت "تحكم السياسات العالمية، وأعادت تشكيل آليات التواصل المصاحبة للنزاعات والحروب، وتحولت سلاحاً رئيساً في المعارك".إذا كانت وسائط التواصل الاجتماعي، بما بلغته من نفوذ حاسم في حياتنا، تمثل دليلاً قاطعاً على نجاح التطور التقني والاتصالي في إعادة تشكيل مجالنا العام والخاص، وإبقائنا رهناً لتجلياتها ونزواتها، فإن هذا النجاح يمكن أن يفتح الباب لمخاطر جمة، يمكن أن تقوض استقرار عالمنا.ليس هناك من دليل على قدرة "وسائط التواصل الاجتماعي" على إعادة تشكيل آليات التواصل السياسي إلا ما ظهر في مواكبة الانتخابات الأميركية والفرنسية الأخيرة من تصاعد لدورها وتأثيرها الكبير في مسار عملية التنافس السياسي.لكن معركة "سقوط الموصل"، التي جرت وقائعها المثيرة في يونيو من عام 2014، ما زالت تمثل البرهان الأوضح على الدور المتصاعد لـ"وسائط التواصل الاجتماعي" في تقويض الأمن الوطني.لقد نجح نحو 1500 مقاتل من "تنظيم الدولة الإسلامة" (داعش) آنذاك، في احتلال واحدة من أكبر محافظات العراق، في معركة خاطفة لم تستغرق سوى أربعة أيام، وهي المعركة التي عرفنا بعدها أن "السوشيال ميديا" كانت أحد أهم أسلحتها الاستراتيجية.حطمت "السوشيال ميديا الداعشية" آنذاك قوة نظامية يبلغ عديدها 25 ألفاً من الجنود والضباط المدربين والمسلحين تسليحاً جيداً، ودفعتها إلى الهروب والتخلي عن محافظة الموصل، بسكانها البالغ عددهم نحو مليوني نسمة، وترك عتادها غنيمة للغزاة، الذين حصلوا على أنساق تسليح ضخمة متكاملة؛ من بينها أكثر من 2300 مدرعة حربية من طراز "همفي". عندما حاول الخبراء والمحللون المختصون تحليل دوافع هروب تلك القوة المدججة بالسلاح، وترك المدينة لقمة سائغة في أيدي الغزاة "الدواعش"، تبين لهم أن "عمليات قصف مباشرة ومركزة عبر (السوشيال ميديا) دفعت آلاف الضباط والجنود إلى الهرب، بعدما أصابتهم بالهلع، وأغرقتهم في محيط من الأخبار المضللة والأكاذيب".استطاع "داعش"، عبر آلاف المنصات التي تعمل لحسابه على "وسائط التواصل الاجتماعي"، أن يحسم معركة الموصل، كما حسم عديدا من المعارك والمنازلات، حتى بات هذا التنظيم "مدينا لـلسوشيال ميديا في وجوده ونجاحه".نحن نعرف الآن أن هزيمة "داعش" لم تكن ممكنة من خلال حشد القوات النظامية، والقصف الجوي المركز، والانتقادات الدبلوماسية فقط، لكنها كانت ممكنة عندما تم التضييق على هذا التنظيم الإرهابي في ملعبه المفضل... الإنترنت.وفي "جلسة تحولات إعلامية قادمة"، استعرض كاتب هذه السطور ملامح التطور التقني والاتصالي، الذي جعل أكثر من 50% من البالغين على المستوى العالمي يتزودون بالأخبار من مواقع التواصل الاجتماعي.لقد أدى هذا النفوذ المتصاعد إلى تداعيات خطيرة؛ منها تراجع مستوى الثقة بالأخبار، واستفحال ظاهرة "الأخبار المزيفة" Fake News، التي تم تخصيص أكثر من جلسة لمناقشة تداعياتها على مدى يومي عمل المنتدى.في جلسة "تحولات إعلامية قادمة" تم التأكيد على ضرورة أن تتواكب تلك التطورات التقنية والاتصالية، التي غيرت نسق تلقي المحتوى الإعلامي، مع نزعة تنظيمية، يمكن أن تحد من التأثيرات السلبية لتلك التطورات، وتهذبها، وتتفادى مخاطرها.وفي هذا الصدد، تم اقتراح عدد من الخطوات الضرورية، التي يجب أن نتكاتف جميعاً لتفعيلها، خلال السنوات القليلة المقبلة، والتي من دونها ستتحول الآثار السلبية لاستفحال نفوذ التطورات التقنية في المجال الاتصالي إلى وحش يمكن أن يقوض سلمنا الفردي والأهلي والوطني.من بين تلك الخطوات ضرورة إعادة صياغة "نموذج أعمال المؤسسة الإعلامية"، بشكل يوفر لمنتجي الأخبار الموثوقين الموارد الكافية للاستمرار في مهمتهم، بعدما ظهر أن هؤلاء المنتجين مهددون بالتوقف عن العمل، في ظل اضطرارهم إلى إنفاق الأموال وتخصيص الموارد لإنتاج الأخبار، التي تبثها وسائط التواصل الاجتماعي، وتحصل على عوائد الإعلانات بسببها، من دون أن تتكبد نفقات في إنتاجها.ومن أهم تلك الخطوات أيضاً أن نقيم ورشة على المستويات الوطنية والعربية تحت عنوان عريض هو "التربية الإعلامية".و"التربية الإعلامية" مصطلح لا يعني "تأديب" جمهور وسائل الإعلام، الجديدة والتقليدية، ولكنه يعني تنمية وعيهم، ومعارفهم، ومهاراتهم، بما يمكنهم من الوصول إلى حالة تلقي رشيدة.عبر برامج "التربية الإعلامية" التي يجب أن تنشط في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام ومراكز الشباب والمنصات الثقافية، سنتمكن من تعزيز مهارات التلقي، بما يعزز المكاسب من التطورات الاتصالية المتسارعة، ويجنبنا مخاطرها.* كاتب مصري