سيرتي وأسرارهم 1
"سيرتي وأسرارهم"، آخر كتاب صدر للدكتورة لوتس عبدالكريم، المرأة التي احترت في تحديد أبعاد شخصيتها العميقة الثرية المتعددة الصفات، ما يجعل المرء يحتار في تصنيفها. سيدة لابد أن تتوقف عندها دهشة وتتساءل عنها؛ هل هي باحثة أم كاتبة أم صاحبة مشروع ثقافي فني كبير؟ أم سيدة صالون استقبل كبار الأدباء والفنانين والعلماء وأهم شخصيات زمنها؟ أم أنها سيدة الدبلوماسية الأولى، التي جابت أرجاء العالم، بصفتها زوجة السفير الكويتي، ثم لاحقا زوجة عبدالرحمن العتيقي، أشهر وزراء الكويت وأكثرهم تفانيا وإخلاصا ونزاهة، الذي أنجبت منه ولدها سالم وحفيدها زياد؟امرأة مثلها صادقت كبار الفنانين والأدباء ورجال السياسة والعلماء وشيوخ الدين، لابد أنها مختلفة ومتميزة بسحر شخصية، وقوة منطق، ورجاحة عقل، وروح محبة دافئة، استطاعت أن تجمع حولها، وفي صالون بيتها، كل هذا الخلط المتميز غير العادي بكل المعايير.معرفتي بها جاءت متأخرة عن طريق "الفيسبوك"، وكان بالإمكان أن تأتي قبل هذا الوقت بأزمان، حيث تجاورنا في حي المعادي، تفصل بيننا فقط أربع عمارات متجاورة، وكان بيننا أصدقاء متشاركون لمدة 28 سنة، ومع هذا لم يتم فيها تعارفنا، ما جعلني أدرك حجم خسارة هذه المعرفة عندما التقيتها هذا العام، وشعرت بمدى خسارتي لهذه المعرفة المتأخرة، وخاصة عندما قرأت كتابها (سيرتي وأسرارهم)، وهو كتاب أكثر من رائع مليء بأسرار سير كُتاب وفنانين كلنا نحترمهم ونحبهم، استطاعت د. لوتس عبدالكريم كشف الوجه الإنساني منهم، بمحبة وصدق والتقاطات عميقة تبرز روح الفنان والأديب والعالم، كما لا يعرفه الآخرون عنه.
د. لوتس هي بحد ذاتها حكاية أو رواية تكتب رواية، فهي بالنسبة لي شخصيتها وحياتها تصلح لبطولة رواية أو مسلسل مهم، فمن خلال حياتها سندخل الزمن الجميل، بكل بهائه وعظمة نجومه، من عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ ويوسف وهبي وسيد مكاوي وبليغ حمدي وإحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وصلاح طاهر ود. فؤاد زكريا ومؤنس طه حسين ومحمد حسن الزيات وبطرس غالي ولويس عوض ومصطفى محمود وصبري راغب وحسين بيكار ومحمود سعيد وشيخ الأزهر السابق عبدالحليم محمود، ولعل أقربهم إليها الملكة فريدة، التي أفردت لها عدة كتب. كتابة د. لوتس رزينة ورشيقة وحيوية وذات عمق يستطيع التقاط جوهر مادته دون الإفراط في الثرثرة الفضفاضة، جُمل تأتي بالمعنى والرؤية التحليلية العميقة دون ترهل وإفاضة بالكتابة، عمقها يأتي من دراستها للفلسفة، حيث حصلت على شهادة الدكتوراه فيها من جامعة السوربون، كما أنها صاحبة ومؤسسة مجلة الشموع الفصلية، التي كان رئيس تحريرها الكاتب أحمد بهاء الدين، وكتب فيها كبار كُتاب مصر، وأيضا صاحبة جاليري الشموع في المعادي.وهذا مقتطف تبيِّن فيه هدفها من الكتابة: "في كتابتي هذه مقاومة للوحدة، وانتصار شخصي لي على النسيان، ومنح ذاكرتي درجات نهائية في التحدي والتفكير، حيث أروي سيرة أو جزءاً من سيرة حياة فردية، وتاريخاً أو جزءاً من تاريخ شخصيات معينة، كنت قريبة منها إلى حد بعيد".التقاطات كثيرة وعميقة وضحت وألقت الضوء على شخصياتهم، ولولا ذكاؤها وإحساسها المرهف الحي، لما استطاعت النفاذ إلى أعماقهم، وسأنقل بعض ما أحسسته وأثر بي من وصفها وكتاباتها عنهم في هذا المقال والذي يليه.فمن ذكرياتها مع الكاتب والصحافي الكبير إحسان عبدالقدوس، وصداقة عُمر معه ومع أسرته تقول: "كثيرا ما أفكر في حكمة كلماته، وأرددها بيني وبين نفسي: أن العواطف أشبه بقطع الحجارة، التي تقع بين تروس العقل فتحطمها وتفسد الآلة المنتظمة الدقيقة، ومعظم مصائب الناس تقع من تأثير العاطفة على العقل. إن العقل وحده لا يخطئ إلا نادرا، والناس الأغبياء في نظري هم العاطفيون".توقفت كثيرا أمام هذا القول، لأنه جاء عكس كتابة إحسان عبدالقدوس، المتمثلة برواياته العاطفية، التي أشعلت وأوقدت مشاعر أجيال من قرائه من المحيط إلى الخليج، كاتب العواطف لا يؤمن بالعواطف، أمر بمنتهى التناقض، وربما يكون تركيبة العبقرية وسر النجاح أن تكتب عن العاطفة وأنت لا تؤمن بها، والعقل يحكمك، ويحكم صيرورة ودقة العمل، حتى يتمكن الكاتب من ضبطه، بعيدا عن اندلاق وانسكاب عواطفه مع مضمون كتابته.