إعلام جديد بلا مبادئ
السؤال الذي يواجه المتابع لما يحدث في الصخب الإعلامي اليوم نجد له إجابة، لكنها ليست إجابة مريحة. لم يكن يتمنى حتى الذين ساهموا في طغيان هذه الصورة البغيضة والمؤسفة أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة من الانحطاط والإسفاف اللذين لم يجدا من يقف بوجههما. الإعلام، الذي كان المؤسسة الثانية المنافسة لوزارة التربية في صياغة شخصية الفرد وتكوينه النفسي وتوجيهه الثقافي، يتخلى عن مسؤوليته، كمن ينسحب دون معركة أمام هذه الموجة من الانحطاط، بل يقف مساندا في أغلب برامجه لهذا الإسفاف. الشكل الإعلامي السائد في السابق كان تحت رعاية الدولة ومحاسبتها شعبيا، وكان إعلاما نرفض احتكاره، ونطالب بأن تتسع الساحة الإعلامية لوجهات نظر أخرى. كنا نطالب بأن يسمح للجمهور بأن يمتلك قنوات خاصة تقدم وجهات نظر سياسية وثقافية مختلفة ومعارضة للقنوات الحكومية. وما كنا نسعى إليه في تلك المطالبات هو المزيد من الحريات والانفتاح على الرأي الآخر. لكن الأمور تحوَّلت بعد تطور وسائل التواصل الاجتماعي إلى انفتاح أكثر من المتوقع. وبدأت موجة جديدة من الإعلام أقرب منها إلى الإعلان يتابعها جمهور مراهق وشاب يرى فيها الأمثلة الأقرب له.الأمثلة التي ينجح هذا الإعلام في تقديمها لنا ويتابعها الجيل الجديد هي الأدنى ثقافة والأقل أخلاقا وقيما، وتساهم، سواء بوعي منها أو بجهل، في تدمير أجيال من المراهقين يرون فيها القدوة التي عليهم الاقتداء بها. فجأة وجدت هذه النماذج نفسها وجوها إعلامية وإعلانية يستغلها أصحاب المنتجات لتسويق منتجاتهم، وتسويقهم أيضا كمنتجات بشرية.
لم يعد هذا الإعلام الجديد يهتم كثيرا بالشباب المثقف، الذي يعمل بصمت نحو بناء جيل قارئ ومطلع يقيم العديد من الأنشطة الثقافية، ويعمل على الاهتمام بالكتاب، ويبذل وقته وماله في سبيل الارتقاء بوعيه. بينما يبذل الإعلام وقته وماله في سبيل تقديم فتيان وفتيات الإعلانات التجارية للجمهور الذي يتابعها ويتبع أثرها. المخيف فعلا أن هذه الوجوه الإعلانية تصورت أنها نماذج ثقافية وإعلامية، وأصبحت تقنع نفسها وجماهيرها بأنها قادرة على فعل الكتابة والتأليف، فتستغلها دور النشر الربحية لترويج أعمالها الهابطة. في المقابل، لم يعد الخبر السياسي أو الاجتماعي حكرا على وسائل الإعلام الرسمية، حيث سهلت وسائل التواصل طرق التعبير السياسي للعامة وللطبقة المثقفة، لكنها تجابه في كثير من الأحيان بتدخل السلطة، وفرض عقوبات تصل إلى السجن بحق المغردين. يبدو الأمر محيرا هنا. السلطة التي لا ترى في هذا الانحطاط الإعلامي عيبا، وتقدم برامجها الإعلامية لقاءات وحوارات لهذه المجاميع تكيل بمكيالين، مع نقيض هذه الوجوه الطارئة.قد لا يتصور البعض خطورة هذا الانحطاط، أو يصفه بالحرية الشخصية. أما الحقيقة، فهذا التدهور سيشكل مستقبلا وعي النشء الجديد وسلوكه واستباحته لكل مفهوم قيمي في سبيل الشهرة والمال. والغريب هو غياب دور رجال الاجتماع وعلم النفس عن هذا التردي البغيض في انغماس الشباب تحت وطأة الرأسمالية واتباع سلوكها بنزع الإنسان من إنسانيته، وتحويله هو أيضا إلى سلعة.