تعرفتُ على الكاتب والروائي العراقي سعد محمد رحيم من خلال مقالاته المميزة التي ينشرها في جريدة المدى البغدادية، ولاحظتُ أنه يكتب بحس إنساني، بعيدا عن الرطانات الأيديولوجية. تميَّز أسلوبه بالموضوعية في مقاربة المعطيات الفكرية والقضايا الوطنية، كما كان على دراية بالمفاهيم الحداثوية والصراعات الهوياتية، ويدرك المتابع لمراجعاته للكتب والأعمال الروائية في الصحف والدوريات العربية، وما ضمه كتابه الموسوم (سحر السرد) تعمق صاحب (فسحة للجنون) في الأدب، وإلمامه بتقنيات السرد، وتبصره في تحديد خصوصية الأعمال الروائية التي كان يستعرضها في مراجعاته النقدية، وهذا الفيض المعرفي والثقافي كان وليد قراءاته الغزيرة، ومواظبته على متابعة حركة الفكر على المستوى العالمي، إذ كان يحاول شرح الأزمات الطاحنة في بلداننا على ضوء ما قدمه المفكرون العالميون من أطروحات جديدة لمفهوم الهوية والمواطنة، إذ يستشهد بكتابه (المثقف الذي يدس أنفه) بما بلوره أمارتيا صن وبندكت أندرسن حول وظيفة الدولة، ودور المثقف في العالم المعاصر، حيث يوضح العلاقة بين المواطن والدولة من منطلق رؤية جون ستيوارت مل، الذي يعتقد "أن دولة تُقزم رعاياها لتجعلهم مجرد أدوات خنوعة لخدمة مشاريعها حتى إن كانت هذه المشاريع مفيدة، ستعجز في النهاية عن القيام بمنجزات كبرى اعتمادا على أقزام".

Ad

إزعاج السلطات

أراد مؤلف "أنطقة المحرم"، من خلال هذا المقتبس، تشخيص الخلل وراء النكسات المتتالية، وتراوحنا في وحل التخلف، نتيجة سوء العلاقة القائمة بين جهاز الدولة والفرد. إلى جانب ذلك، تبنى سعد محمد رحيم موقف جان بول سارتر لدور المثقف الذي تكون وظيفته الأولى هي إزعاج السلطات، كما آمن في الوقت نفسه بموقع المثقف، كما حدده ألبير كامو، بأنه من الضروري ألا يقف بجانب الذين يصنعون التاريخ، بل يجب أن ينحاز إلى من يتألمون، ويكلفهم صنعه ثمناً باهظاً. وعلى عكس مَن فهم التحديث بأنه انقطاع من الماضي، وترديد كلمات ومصطلحات وافدة، فإن سعد محمد رحيم رأى أنه من الأفضل التعاطي مع التراث الماضي بمنهجية مختلفة تتسق وحاجات الحاضر والمستقبل.

ونحن بصدد الحديث عن هذه القامة الثقافية لا يجوز تجاهل الكتاب القيم (استعادة ماركس)، إذ يسرد سعد محمد رحيم قصته مع هذه الدراسة من بعقوبة، قبل أن يُنسفَ بيته بفعل الانفجار، وذهابه إلى بغداد، وما أثاره نشر أجزاء من الدراسة في موقع الحوار المتمدن المدى، من ردود الأفعال كانت أغلبها مشجعة، ما أمده بالرغبة لإصدارها بين دفتي كتاب. من المعلوم أن الميول اليسارية لدى المؤلف وتأثره بأطروحة ماركس واضحان، غير أن ذلك لم يتحوَّل إلى عقيدة، كأنه أدرك أن أي فكرة عندما تتلبس بأردية العقيدة يدركها الركود والجمود، على حد قول جورج برنادشو، لكن هذا لا يعني عدم اقتناع الكاتب بتنبؤ ماركس بعالم تختفي الصراعات الطبقية، بل يؤكد أن الجنة التي تخيلها صاحب (رأسمال) على الأرض مازالت ممكنة. يجدرُ بالذكر في هذا المقام أن (استعادة ماركس) كتاب يضعك أمام الظروف والأحوال التي ساهمت في تكوين الفلسفة الماركسية، كما يورد في سياق فصوله رؤى ونظرة الفلاسفة المعاصرين. جميس دوبريه، جاك ديريدا، وسارتر عن مصير هذه الفلسفة. إذا انصرفنا إلى الشق الإبداعي في شخصية سعد محمد رحيم نرى روايات مميزة في رصيده، لاسيما (مقتل بائع الكتب)، التي وصلت إلى قائمة بوكر القصيرة، واحتفى بها النقاد على نطاق واسع، وجُمعت المقالات والدراسات التي نُشرت حولها في كتاب صادر من دار سطور.

كان سعد محمد رحيم على المستوى الشخصي إنساناً متواضعاً ومتعففاً عن النقاشات والسجالات العقيمة، لذا كنت متشوقا للقائه، بعدما أجريتُ معه لقاءً صحافياً عبرَ النت، ونُشر في صحيفة الجمهورية اللبنانية، وعندما سمعت أنه سيشارك في مهرجان كلاويز الأدبي تحدثت معه في العالم الافتراضي، وأعربتُ عن سعادتي بأنه سيحل ضيفاً على مدينة السليمانية.

يُشار إلى أن روايته (مقتل بائع الكتب) تُرجمت إلى اللغة الكردية، ولقيت استقبالاً جيداً لدى القراء. لم أتمكن من اللقاء بالأستاذ سعد محمد رحيم أثناء فعاليات المهرجان، وفاتني لقاؤه أيضاً في مكان إقامته، نظراً لشدة احترامي لأوقات الآخرين، وخوفي من أن يكون توقيت زيارتي غير مناسب. يوم أمس سألتُ أحد أصدقائي عن الضيوف، خبرني بأنهم رجعوا إلى بغداد، قلتُ ربما سألتقي الأستاذ سعد محمد رحيم في بغداد، وفي توقيت غير مرتقب، وأن الصدفة خير من ألف ميعاد، لكن فوجئت حين قرأتُ خبر تعرضه لجلطة في القلب، وعندما زرتُه بالمستشفى التعليمي قلتُ ستستعيد عافيتك إن شاء الله، فأجابني: "الله كريم"، وتحدث مع ابنه في بغداد، وطمأنه على صحته، وغادرتُ المستشفى، ما وجدنا لا أنا ولا أصدقائي شيئا ينبئ بأن حالته الصحية ستتدهور.

كان القلب على وشك استعادة توازنه، وأكد أنه سيبقى في المستشفى. لم يمر كثير من الوقت إلا واتصل صديقي وقال إن الأستاذ سعد يلفظ أنفاسه الأخيرة. حاول الأطباء والموظفون، وبذلوا كل ما بوسعهم عسى أن ينعش القلب، لكن في منتصف الليل فارق سعد محمد رحيم الحياة، بعدما تمرَّد على الموت في أزمة قلبية سابقة عاد وقدم أجمل أعماله الإبداعية (فسحة للجنون، التاريخ ينكل بالحداثة، مقتل بائع الكتب، المثقف الذي يدسُ بأنفه)، غير أن هذه المرة منع الموت بقسوته المعهودة عودته للحياة، وبذلك خسر العراق مثقفاً وأديباً وإنساناً من طراز فريد لا يمكن تعويضه أبداً.