الشكل الجديد للشرق الأوسط
اتخذ الشرق الأوسط شكلاً وبنية مختلفين في السنوات الأخيرة، وقد تجلى هذا الواقع بوضوح كبير في لقاء الرابع من أبريل في تركيا بين روسيا وإيران وتركيا، وباتت هذه المجموعة تؤدي اليوم دوراً رئيساً في تحديد الشرق الأوسط، وقد لا تكون بالضرورة مجموعة متجانسة، ولا نعلم يقيناً كم سيدوم إمساكها بزمام السلطة، ولكن في الوقت الراهن تنتقل الولايات المتحدة، التي كانت سابقاً القوة المحدِّدة في المنطقة، إلى الهامش، مما يؤدي إلى بروز هندسة جديدة.يعود التغيير إلى حدثين بارزين: هزيمة "داعش" في العراق والربيع العربي. كان من الطبيعي أن تخوض الولايات المتحدة مشقة توضيح سياستها الخارجية وتحديد مصالحها، وكان التصدي للإرهاب أحد أهدافها، إلا أن استخدام قوات متعددة الفصائل قد يترتب عليه خسارة الآلاف من الضحايا لم يشكّل حلاً مثالياً. حدّت الولايات المتحدة من وجودها العسكري المباشر، ونتيجة لذلك كان الوجود الإيراني في العراق مثلاً، أكثر تأثيراً سياسياً من الوجود الأميركي، كذلك اعتمدت الولايات المتحدة على أكراد العراق للترويج لمصالحها، لذلك عندما سعت إلى بناء ائتلاف مناهض للأسد في سورية، كان من البدهي أن تتحالف الولايات المتحدة مع المجتمعات الكردية على الحدود التركية-السورية.
لا يُعتبر خيار الولايات المتحدة الحد من احتكاكها بالمنطقة غير منطقي، لكنه لم يكن أيضاً بلا عواقب، فقد أدت طبيعة الائتلاف الذي حاول الأميركيون بناءه إلى توتر العلاقات مع تركيا، ووضع الولايات المتحدة في الوقت عينه على هامش التطورات في سورية، وهكذا تراجعت أي خلافات كانت تملكها تركيا مع إيران أو روسيا على الأمد الطويل إلى مرتبة ثانية أمام مخاوفها من الائتلاف الأميركي-الكردي على حدودها، ونتيجة لذلك ازداد التحالف الأميركي-التركي توتراً. في نهاية المطاف يُعتبر مستقبل سورية أكثر أهمية لمعظم الدول التي تشاطرها المنطقة، إذ تملك تركيا حدوداً مع سورية، وقد لاحظت أن حركة الميليشيات الكردية بدأت تكبر وتكتسب خبرة في القتال في شمال سورية، كذلك تخوض إيران صراعاً تاريخياً بين الشيعة والسنة، ورأت في سورية فرصة لتوسّع نفوذها، أما بين اللاعبين الخارجيين فقد منحت الحرب روسيا فرصة لتستعيد مكانتها كقوة مهمة. صحيح أن الولايات المتحدة شاركت في تدمير "داعش" واحتواء إيران، إلا أنها قامت بذلك بحكم العادة، ولم تدرك أن مصالحها في سورية محدودة إلا عندما فكرت ملياً في ذلك، لكن حماقة الأميركيين الظاهرية لم ترتبط بالكفاءة بقدر ارتباطها بالتيارات المتضاربة التي كانت تحاول إعادة تحديد الاستراتيجية الأميركية فيما كانت الحرب في سورية مشتعلةً.مع تراجع الولايات المتحدة تلتقي القوى الثلاث المتبقية لتحديد الخطوات التالية في سورية، لكن هذا التعاون لا يُعتبر مستداماً على الأمد الطويل، يريد الأتراك الحد من القوة الروسية في البحر الأسود والقوقاز، ولم ينسَ الإيرانيون احتلال الاتحاد السوفياتي شمال إيران خلال الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن أنهم يعتبرون الأتراك خصوماً، كذلك تسعى إيران إلى تعزيز نفوذها في مختلف أرجاء المنطقة، وهذا ما لا ترحب به روسيا وتركيا على حد سواء.لكن الأمد الطويل ما زال بعيداً، وترى هذه القوى راهناً نفسها على أرض مشتركة، فترغب روسيا في الظهور كند للولايات المتحدة، ويريد الإيرانيون ملء الفراغ الذي خلفه الأميركيون، أما الأتراك فيودون أن تعود الولايات المتحدة عن تحالفها مع الأكراد، فما من تفاهم مشترك حول ما يجب أن يحدث في سورية، وهذا ما تحاول هذه القوى الثلاث اكتشافه، لذلك تظل الولايات المتحدة، حتى بعد خفضها قواتها ومصالحها في المنطقة، قوة للتصدي لها. لا شك أن تعليل استراتيجية قوة عظمى على الأمد القصير يقود إلى نتائج غريبة، وتشكّل الكتلة الروسية-التركية-الإيرانية خير مثال.* جورج فريدمان* «جيوبوليتيكال فيتشرز»