تنوير : كوارث عربية (1): العنصرية ومعيار الكفاءة
في ما يشبه الأسطورة الحديثة يتداول الناس في تجمعاتهم والناشطون على وسائل التواصل قصة عجيبة عن انهيار الاتحاد السوفياتي. تقول القصة إن أحد عملاء المخابرات الأميركية استطاع الوصول إلى منصب كبير في الحكومة السوفياتية؛ بحيث أمكنه التحكم باختيار القيادات المؤثرة في اتخاذ القرارات، ثم إنهم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ألقوا القبض على هذا العميل، الذي لا يمكن أن يكون أقل تنفذاً من غورباتشوف شخصياً، ولما سألوه كيف استطعت الإسراع بوتيرة الانهيار؟ أجاب ببساطة إنه كان يختار الأشخاص الأقل كفاءة في الأماكن القيادية في كل مجال.حتى هنا تنتهي القصة، ولا يجب أن تسأل من يكون هذا الشخص الذي يمكنه أن يختار كل القيادات في المجالات كافة، فالقصة أمثولة، بغض النظر عن مدى صدقها، تشرح كيفية انهيار الدول وتخلف المجتمعات، عن طريق استبعاد أصحاب الكفاءة وتغليب عناصر أخرى كشبكة القرابة أو النزعة العرقية العنصرية في إدارة المؤسسات، أو الفساد المالي وانتشار الرشى.. الخ. الغريب أن هذه القصة لم أسمع بها خارج الثقافة العربية، رغم ترحالي المستمر وسؤالي المتكرر لأصدقاء أوروبيين عنها. القصة غالباً أمثولة عربية خالصة. وإذا تأملناها لاحظنا الطابع التراثي العربي في بنيتها التي تشبه قصص «ألف ليلة وليلة»، حيث تقوم على مؤامراة يتم كشفها في نهاية الأمر ومعاقبة الخائن، ومثل ذلك قصة عن أحد وضاع الحديث النبوي الشريف الذي اعترف بأنه وضع آلاف الأحاديث غير الصحيحة، ولم يرشد عنها رغم التعذيب الذي انتهى بالقتل. الأمثولة تعبِّر عن تشخيص شعبي لكارثة متفشية في الثقافات العربية على تنوعها وهي استبعاد الكفاءات بنسبة مذهلة، لأسباب متعلقة بالفساد والتعصب العرقي أو القبلي أو الطبقي. تخلق الأجيال المتألمة من وضع الثقافات العربية المتعثرة أساطيرها التي تشخص بها المرض، ولأن هذه الأساطير تمس عصباً مكشوفاً تنتشر بسرعة، لتشبع رغبة عميقة لدى الناس في التعبير عن مرض يعانون أعراضه ويعرفونه بصورة دفينة، لكنهم يفتقرون إلى الكلمات المناسبة القادرة على تشخيصه.
تقوم الثقافات العربية بفعل مجرم حين تدفع بمعيار الكفاءة إلى الخلف في مناقشة مشكلاتها، بل ويصل الأمر أحياناً إلى التضحية الكاملة بالكفاءة، لإرضاء النعرات الطائفية العنصرية أو القومية المتطرفة. لا ينفصل هذا عن فكرة توطين الوظائف في دول الخليج، التي رغم ضرورتها وأهميتها للدولة، لا يجب أن تتم تحت غطاء من النعرات الطائفية والعنصرية المضللة، بل تحت مظلة من التأهيل الرفيع، واعتماد مفهوم الكفاءة معياراً وحيداً. حتى وقت قريب لم يكن أحد يفكر في ثائية وافد/ مواطن التي ارتفعت أخيراً، كان الجميع يفكر في كيفية تحسين بيئة العمل للحصول على أفضل النتائج، وهو أمر جعل من دول الخليج في العقود الماضية جاذباً لأهم كفاءات الوطن العربي، وربما العالم. اليوم تسعى الدول الخليجية إلى إحلال العمالة الوطنية محل الوافدة وهو كما أقول وأكرر أمر مشروع بل ومطلوب، ولكن ليس تحت لهيب النعرات العنصرية والطائفية التي يسهل إشعالها ويصعب جداً إخمادها، وليس عبر التضحية بمعيار الكفاءة. النعرات الطائفية والعنصرية والقومية في أي مكان بالعالم ترضي لدى الإنسان عطشاً عميقاً للشعور بتفوق زائف يخفي ضعفاً عميقاً، وتحيي لديه مشاعر قديمة معقدة تتركب من الأنانية والميل إلى العنف والاستحواذ الطفولي، لكنها تؤدي دوماً إلى انهيار الأمم وإشعال الحروب.دعونا نبني الأوطان بتسييد مفهوم الكفاءة، وتجنب النعرات الطائفية والعنصرية التي ستدفع ثمنها الأجيال المقبلة.