أزمة قطاع غزة والصدام المقبل
كانت نقطة التحوّل الأخيرة بالنسبة إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس هي خطاب الرئيس الأميركي ترامب في ديسمبر الماضي، الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، إذ شعر الفلسطينيون بالتحيز ضدهم في القضية الأكثر إثارة للمشاعر في هذا الصراع ، وبعد بضعة أسابيع شتم عباس ترامب علناً، ثم انتقد السفير الأميركي ونعته بأنه «مستوطن ابن كلب».
بلغت حصيلة القتلى في الاشتباكات التي وقعت على الحدود بين اسرائيل وقطاع غزة خلال الأسبوعين الماضيين حوالي 30 فلسطينياً، وكان آلاف الفلسطينيون في القطاع قد شاركوا في بداية موجة من الاحتجاجات أشعلتها «حماس»، المسيطرة على غزة. وبينما أصرّ مسؤولو «حماس» على أن الصدامات ستسمر لعدة أسابيع، فإن منافسهم في الضفة الغربية، محمود عباس، أعلن يوم حداد وطني خلال عطلة نهاية الأسبوع الأول من الاشتباكات، وألقى اللوم على إسرائيل في اندلاع أعمال العنف. ويبدو أن عباس حريص على إثارة صدام أوسع نطاقاً، وكان قد تصدَّر عناوين الصحف الشهر الماضي لتلقيبه السفير الأميركي في إسرائيل، ديفيد فريدمان، بـ «مستوطن ابن كلب» في خطاب عاتبَ فيه سياسة إدارة ترامب. عداء عباس بعيد كل البعد عن نبرته قبل عام عندما قال للرئيس ترامب أثناء زيارته للبيت الأبيض: «معك، سيدي الرئيس أصبح لدينا أمل». وبالفعل، كانت رئاسة ترامب مليئةً بالتقلبات بالنسبة للقيادة الفلسطينية، التي كانت قلقة في البداية من أن إدارته ستتجاوز الفلسطينيين لصالح بناء دعم إقليمي لاتفاق سلام. وقد هدأت هذه المخاوف إلى حد كبير عندما اتصل ترامب بعباس في مارس وأخبره بأنه «شريكه الاستراتيجي» قبل دعوته إلى واشنطن. ومع ذلك، خلال المحادثات التمهيدية التي تلت ذلك، أفادت التقارير باستمرار بأن البيت الأبيض كان يسعى إلى مزيد من التدخل الإقليمي، ما أدى إلى تأجيج الذعر الذي يشعر به الفلسطينيون منذ وقتٍ طويل إزاء التدخل الأجنبي في سياستهم.
نقطة تحوُّل
لكن نقطة التحوّل بالنسبة لعباس كانت خطاب ترامب في ديسمبر الذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل، حيث شعر الفلسطينيون بالتحيز ضدهم في القضية الأكثر إثارة للمشاعر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وبعد بضعة أسابيع شتم ترامب علناً، ثم انتقد السفير الأميركي في إسرائيل في الشهر الماضي. وعلى الرغم من أن البيت الأبيض وبّخ لغة عباس، إلّا أنه من غير المرجح أن يدفع الرئيس الفلسطيني ثمناً باهظاً في الضفة الغربية، فقد أظهر استطلاع أُجري مؤخراً أنه في حين أن أغلبية الفلسطينيين يريدون استقالته، فإن أغلبية أيضاً تؤيد موقف المواجهة الذي يتخذه مع الولايات المتحدة.ولا يمكن قول الشيء نفسه عن سياساته تجاه «حماس»، ففي بداية رئاسة ترامب، أعلن عباس عن موجة شاملة وغير مسبوقة من العقوبات الاقتصادية ضد «حماس». وكانت «السلطة الفلسطينية» في الضفة الغربية قد دفعت ملايين الدولارات على مر السنين ثمن موارد محددة في غزة مثل الكهرباء ورواتب موظفي «السلطة الفلسطينية»، شريطة ألا يتوجه هؤلاء الموظفون إلى العمل في الوزارات التي تسيطر عليها «حماس». وفي حين أدى هذا الأمر فعلياً إلى دعم «السلطة الفلسطينية» لسيطرة «حماس» على غزة، إلّا أنه منع أيضاً انهياراً إنسانياً كاملاً في القطاع. وفي ظل انتقادات حادة، خفف عباس بعض العقوبات في الوقت الذي وقّع فيه الجانبان على اتفاق مصالحة آخر في أواخر عام 2017، لكن ما إن تم اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذ هذا الاتفاق حتى بدأ الطرفان في تبادل الاتهامات. ومن ناحية أخرى، في نوفمبر الماضي، سمحت «حماس» لقوات «السلطة الفلسطينية» باستعادة السيطرة على عدة نقاط تفتيش داخل غزة وخارجها، لكن «حماس» تأبى التنازل عن أكثر قضيتين حساستين لها، وهما: وضع عمال الخدمة المدنية وجناحها العسكري الدائم. وأصرت الجماعة على أن تعمل «السلطة الفلسطينية» على إيجاد طريقة لدمج موظفيها المحليين في الموازنة، بينما ترفض في الوقت نفسه حل جناحها العسكري المتمثل في كتائب القسام.وخلال حالة الجمود هذه، قام رئيس وزراء «السلطة الفلسطينية» رامي الحمدالله ورئيس جهاز المخابرات اللواء ماجد فرج بزيارة إلى غزة الشهر الماضي. وبعد وقت قصير من دخولهما القطاع، أصيب موكبهما بعبوة ناسفة. ونفت «حماس» مسؤوليتها عن الهجوم، لكن المسؤولين في «السلطة الفلسطينية» سارعوا إلى تحميل الحركة المسؤولية عن الوضع الأمني العام. ثم ذهب عباس إلى أبعد من ذلك عبر اتهامه «حماس» مباشرةً وتعهده باتخاذ «إجراءات وطنية وقانونية ومالية» ضد الجماعة.عزلة عباس
أدى نهج عباس تجاه غزة إلى تعميق عزلته الدبلوماسية، ففي حين أن مخاوفه مشروعة فيما يتعلق بالجناح العسكري لحركة «حماس»، إلّا أن عدم مرونته أثارت عداء مصر وأقنعت عدداً كبيراً من المسؤولين الأوروبيين بأنه غير مهتم بتحسين وضع سكان غزة. وكان المجتمع الدولي قد تردد حتى الآن في تجنب عباس عندما تعلق الأمر بتنفيذ أي مشاريع في غزة، إذ لا يزال العالم يعتبر «السلطة الفلسطينية»، وليس «حماس»، الممثل الشرعي للفلسطينيين. ومع ذلك، قد تختار بعض الجهات الفاعلة الدولية التخلي عن اعتبارات دبلوماسية غامضة عندما تواجه انهياراً إنسانياً وشيكاً وصدامات عسكرية محدقة ورئيساً فلسطينياً يبدو عازماً على عدم فعل أي شيء من أجل غزة. ومن خلال سعي عباس إلى الضغط على «حماس»، قد يجد نفسه في النهاية أكثر عزلةً على المستوى الدولي مما هو عليه اليوم، وفي موقف أكثر هشاشةً فيما يخص ادعاءه بتمثيل جميع الفلسطينيين.وتوحي نبرة عباس وأعماله القتالية الأخيرة بأنه يهتم أكثر بتراثه وأقلّ بتداعيات سياساته، ففي غزة، يبدو أن «حماس» المحاصرة تقوم بمحاكاة قواعد اللعبة التي أدت إلى انلاع حروب سابقة مع إسرائيل، ولا يبدو أن أياً من الطرفين مهتم بشكل خاص بتخفيف حدة التصعيد. ومع استمرار الاحتجاجات، يتعين على المجتمع الدولي – ولاسيما تلك الدول التي لديها القدرة على كبح جماح الفصيلين الفلسطينيين على حد سواء- أن يعمل على تهدئة الأوضاع، فعلى المدى القصير، يجب أن تتمثل الأولوية في تخفيف حدة التصعيد وضمان عدم اندلاع حرب جديدة. أما على المدى الطويل، فيتطلب الاستقرار في غزة التعامل مع الأزمة الإنسانية هناك. لذلك، يجب أن يختار عباس و»السلطة الفلسطينية» إما أن يكونا شريكين في تقديم الإغاثة لأبناء وطنهم في غزة، وإما أن يتم تجاوزهما في الجهود الدولية الرامية إلى تقديم هذه الإغاثة.
على عباس والسلطة الفلسطينية أن يكونا شريكين في تقديم الإغاثة لأبناء وطنهما في غزة وإلا فسيتم تجاوزهما في الجهود الدولية لإغاثة غزة