العراق مازال بعيداً عن السلام والديمقراطية
من المفترض أن يشهد العراق الشهر المقبل انتخابات عامة، وستكون هذه رابع مرة يصوّت فيها العراق في انتخابات متعددة الأحزاب خلال السنوات الخمس عشرة التي تلت الإطاحة بنظام صدام حسين البعثي في أبريل عام 2003. لا شك أن هذا إنجاز مذهل في بلد كانت المرة الأخيرة، قبل عام 2003، التي نظّم فيها انتخابات متعددة الأحزاب، وإن بقيود، في عام 1957 خلال عهد الملكية التي أطاح بها انقلاب عسكري عام 1958. لكن العراق ما زال بعيداً عن التمتع بالسلام، والاستقرار، والديمقراطية، والازدهار، صحيح أن الشعب العراقي تحرر من حكم النظام الظالم السابق، إلا أنه واجه معاناة إضافية مختلفة بطبيعتها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية.جاء تغيير النظام في عام 2003 بفضل غزو قوى ائتلاف دولي، ترأسته الولايات المتحدة، للعراق، فقد أدّت عملية «حرية العراق» العسكرية إلى انهيار القوات المسلحة العراقية بسرعة، ثم اتُّخذت إجراءات عدة بغية تحديد كيفية إدارة العراق في ظل غياب سلطات ما قبل الغزو. وهكذا أنشئت سلطة الائتلاف المؤقتة الدولية، وعيّن الرئيس الأميركي جورج بوش بول بريمر قائداً لها، مانحاً إياه صلاحيات مطلقة، وقد صدّق بريمر بعيد ذلك على إنشاء مجلس حاكم انتقالي عراقي، واختار أعضاءه من بين المجموعات والأفراد العراقيين الذين دعموا غزو العراق.لكن الأمل في إرساء الأسس الضرورية لإنشاء دولة عراقية تنعم بالسلام والديمقراطية تبدد بسرعة أمام إلحاح حركة تمرد مدمرة اصطدمت بها قوات الائتلاف وحلفاؤها العراقيون، وتحوّلت حركة التمرد هذه تدريجياً إلى صراع سني- شيعي هدد بحلول عام 2016 بإغراق العراق في حرب أهلية طائفية. ولكن بفضل الجهود المتضافرة، ساهم الائتلاف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقوات العراقية المشكّلة حديثاً، بدعم من قوات البشمركة الكردية في الشمال والقبائل العربية في الجنوب، في تفادي الحرب الأهلية.
ولكن خلال تلك الحقبة، حدثت تبدلات سياسية في عراق ما بعد صدام صاغت مستقبل البلد، ففي عام 2004، سلّمت سلطة الائتلاف المؤقتة رسمياً صلاحياتها إلى الحكومة العراقية الانتقالية، كذلك انتُخبت جمعية وطنية وكُلفت مهمة محددة هي وضع دستور دائم، وفي عام 2005، تبنى العراق الدستور المصوغ في استفتاء شعبي ونُظّمت الانتخابات العامة الأولى.اختار البرلمان المنتخب حديثاً رئيساً ورئيس وزراء، لكن السلطة الفعلية كانت ولا تزال مركزة بيد رئيس الوزراء، الذي يُعتبر القائد الأعلى للقوات المسلحة. كذلك توصلت كل القوى السياسية إلى إجماع على تخصيص منصب رئيس الوزراء للشيعة، والرئيس للاكراد، ورئيس مجلس النواب للسنة. لكن المفارقة تكمن في أن هذا الإجماع، الذي يقوم على تقسيم طائفي كان الهدف منه أن يكون حلاً للتوصل إلى الاستقرار السياسي والأمني، تحوّل إلى لب كل المشاكل، فقد فتح الوضع القائم الباب أمام القوى الإقليمية لتتدخل في شؤون العراق بدرجات متفاوتة.
الدور الإيراني
تحالفت مجموعات عدة في العراق مع قوى إقليمية مختلفة، ولا شك أن إيران برزت كلاعب مهم في العراق. ويخفق كثيرون من خارج العراق في إدراك طبيعة دور إيران في هذا البلد وحجمه، حيث يزداد العراق خضوعاً لطبقة سياسية ودينية شيعية مهيمنة تتمتع بروابط متينة مع جمهورية إيران الإسلامية، فقد قامت قوات الحشد الشعبي بالكامل على عقيدة شيعية شبيهة بعقيدة حرس الثورة الإيراني، ولا عجب في أن يكون مستشارها المقرب قائد فيلق القدس الواسع النفوذ في إيران قاسم سليماني، فكثيرون من قادة قوات الحشد الشعبي، بمن فيهم قائدها الأعلى هادي العامري ونائبه أبو مهدي المهندس، خدموا في الماضي إلى جانب سليماني في حرس الثورة. وتُعتبر كتائب الحشد الشعبي اليوم بحكم القانون قوة عسكرية مستقلة موازية للجيش العراقي، وعقب استفتاء الاستقلال المثير للجدل السنة الماضية، استُخدمت هذه الكتائب لتكون القوة الرئيسة في مواجهة قوات البشمركة الكردية، فاستعادت كركوك وأجزاء كثيرة من المناطق المتنازع عليها الواقعة تحت حكم الأكراد.ورغم تراجع التوتر بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان الفدرالي في الآونة الأخيرة، فإنهما ما زالا يتنازعان على عدد كبير من المسائل.لا يُعتبر الأكراد المجموعة الوحيدة في العراق التي تواجه مشاكل خطيرة مع المؤسسة الحاكمة ذات الغالبية الشيعية، إذ يشعر العرب السُّنة أيضاً بأنهم مهمشون وأنهم يُعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، ومن اللافت للنظر أن ممثلي العرب السنة عارضوا بشدة خلال عملية وضع الدستور عام 2005 مادةً تُصنّف العراق دولة فدرالية، لكن يأسهم دفعهم اليوم إلى تبديل موقفهم بالكامل، مطالبين بحصول السنة على إقليمهم الفدرالي الخاص أسوة بإقليم كردستان، لكنهم لا يصلون إلى الحد الذي بلغته غالبية الأكراد التي اختارت الاستقلال التام عن العراق.إذن، إلى أين يتجه العراق؟ بعد مرور 15 سنة على عملية «حرية العراق»، ما زال العراقيون يطرحون السؤال الملح عينه عن مستقبل بلدهم: هل تستطيع الدولة العراقية الموحدة الصمود؟ وضعت تقريرَ السنة الماضية عن مستقبل العراق مجموعة عمل العراق، التي أسسها قبل سنة المجلس الأطلسي في واشنطن، وضمت هذه المجموعة عدداً كبيراً من السياسيين، والأكاديميين، والخبراء، وفي خلاصة التقرير، قدّم معدوه سلسلة من التوصيات إلى الإدارة الأميركية. جاء في إحدى هذه التوصيات: «من مصلحة أمننا الوطني أن نبذل قصارى جهدنا لنؤسس دولة عراقية مستقلة، مستقرة، ومزدهرة: دولة تعيش بسلام مع جيرانها، دولة تعكس الحوكمة الشرعية والفاعلة، ودولة تميل بقوة إلى التعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وخارجه».لا يبدو عراقيون كثر متفائلين أو مقتنعين بأنه من الممكن تحقيق هدف مماثل من دون تغيير الوضع الراهن، لكن العراق لن يشهد أي تغيير خلال السنوات المقبلة على الأقل، وللمرة الرابعة، ستُخاض انتخابات الشهر المقبل بين الكتل السياسية التي تشكّل القواعد الطائفية.