يمكننا استخلاص الكثير من الدروس والعبر من الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في مصر، في شهر مارس الماضي، وأسفرت نتائجها عن فوز كاسح للرئيس السيسي، بنسبة تناهز 97%، وهزيمة منافسه موسى مصطفى موسى، الذي لم يكن سوى مرشح مغمور، أتى إلى المشهد على عجل، بعدما أعلن تأييده للرئيس.من بين تلك الدروس أن مصر التي تملك 104 أحزاب سياسية مسجلة، لم تجد مرشحاً يمثل حزباً قوياً يمكن أن يخوض منافسة تتسم بقدر مناسب من التوازن مع الرئيس صاحب الشعبية الكبيرة.
سيكون هناك الكثير مما يمكن أن يقوله النقاد بخصوص الحالة الاستثنائية التي تمر بها البلاد راهناً، أو شعبية الرئيس الكبيرة التي لا تتيح للمنافسين قواعد تأييد يمكن أن تُصلّب قوام منافسة، أو بعض الإجراءات المثيرة للجدل التي أقصت مرشحين معتبرين عن السباق.لكن تلك الدعاوى، رغم وجاهة بعضها، لا يمكن أن تطرح إجابة مناسبة عن السؤال المهم: لماذا أخفقت الأحزاب التي يتعدى عددها المئة في توفير بديل قادر على المنافسة؟عرفت مصر الحياة الحزبية في مطلع القرن العشرين، عندما نشأ "الحزب الوطني"، كتعبير سياسي مؤسسي، يتجاوب مع المطلب السياسي السائد آنذاك، وعنوانه: "الاستقلال".كانت تلك بداية مثيرة، رغم اتساقها مع مطالب أمة عريقة، تنزع نحو الاستقلال عن الاحتلال البريطاني الذي جسم على صدرها، وأعاق نموها السياسي، وسلب إرادتها، بالنظر إلى فراغ المحيط الإقليمي من شواهد حزبية يمكن أن تمثل دعماً أو إلهاماً.الأحزاب السياسية المتعددة فكرة غربية، ذات نزوع ليبرالي بكل تأكيد، ورغم أن بريطانيا كانت من أولى دول العالم تأسيساً للأحزاب السياسية، فإن ذلك لم يمنع أن يكون أول حزب جماهيري مصري فاعل؛ هو حزب "الوفد"، الذي أنشأه الزعيم التاريخي سعد زغلول، ورفاقه، في أعقاب ثورة 1919، للمطالبة باستقلال البلاد عن المحتل البريطاني.عرفت مصر حياة حزبية نشطة في كنف الاحتلال، ونشأ عدد كبير من الأحزاب، التي استطاعت أن تشكل معالم ما عُرف لاحقاً بـ"الحقبة الليبرالية"، حيث كان بعضها مخلصاً لقضية التحرر من الاستعمار البريطاني، في حين كان بعضها الآخر يعكس توجهات أيديولوجية صارمة؛ مثل حزب "مصر الفتاة"، أو يتطلع إلى المنافسة من أجل الوصول إلى الحكم، من دون أن يمتلك قاعدة جماهيرية كتلك التي يمتلكها "الوفد".لكن ذلك الحراك السياسي الحيوي، الذي أثمر إعلان دستور 1923، وبلور تجربة متكاملة في المقاومة السياسية والتنافس من أجل الوصول إلى السلطة، شهد صدمة كبيرة، أطاحت عالمه، مع اندلاع ثورة 23 يوليو 1952.رأت الثورة آنذاك أن الأحزاب أفسدت الحياة السياسية، وعطلت تحقيق أمل البلاد في الاستقلال، وأغرقتها في الفساد والمماحكات الانتخابية، التي فشلت في مقابلة تطلعات الجماهير نحو الاستقلال أو التنمية.ورغم أن الثورة أرست مبادئ ستة كدستور لعملها، وكان من بين تلك المبادئ "إقامة حياة ديمقراطية سليمة"، فإنها حظرت الأحزاب، وأنشأت لاحقاً حزباً واحداً، وأقامت حكماً شمولياً، حقق إنجازات ضخمة وملموسة، ومُني بهزائم كارثية، لكنه لم يفتح الباب لإنشاء الأحزاب، أو يرسي قواعد للمنافسة السياسية، أو تداول السلطة.يربط علماء وباحثون بين التحديث والأحزاب السياسية، بوصفها آلية سلمية ناجعة لتحقيق المشاركة السياسية، وضمان المؤسسية، والتعبئة الاجتماعية، التي من دونها لا يمكن أن يتحقق التحديث، وفق ما يؤكد هنتنغتون.وكما يؤكد الباحث السياسي موريس دوفرجيه، فإن التنظيم المؤسسي للأحزاب، وإرساء قواعد منافسة حزبية عادلة، يعززان القدرة على الحشد، وطرح البرامج، واستعراض البدائل، واختيار الأفضل بينها، بما يرسم صورة تتسم بالحداثة والليبرالية.ربما كان هذا نفسه هو ما فكر فيه الرئيس الراحل أنور السادات، الذي فتح الباب لعودة الحياة الحزبية في مصر، في عام 1976، بعدما خرج منتصراً من حرب أكتوبر 1973، وأظهر ولعاً بالحصول على تقدير ومكانة وتعاون مميز من المعسكر الغربي.لكن الحياة الحزبية التي أنشأها السادات كانت هشة وشكلية، بحيث فتحت الباب واسعاً لهيمنة حزب أوحد على شؤون البلاد من جانب، ولم تترك للتيارات المعارضة وسيلة فعالة للتعبير عن رؤاها ومطالبها، وتركت الساحة مستباحة للتيار الديني، الذي أفسد ما تبقى من الحالة السياسية، عبر استناده الأيديولوجي المخاصم للحداثة والديمقراطية، من جانب آخر.لكن الانتفاضة التي اندلعت في 25 يناير 2011، كانت بمنزلة زلزال حقيقي، أثمر انفجاراً حزبياً هائلاً، أدى إلى تلك الحصيلة الضخمة التي تجسدت في أكثر من مئة حزب سياسي، يمكن ببساطة اعتبارها كماً لا كيفاً، لأنها بكل تأكيد تفتقد الفاعلية.يؤكد علماء السياسة أن ثمة خمسة مؤشرات تحدد مدى فاعلية الحزب السياسي؛ أولها قدرته على المنافسة من أجل الوصول إلى السلطة، وثانيها أن يمتلك قاعدة جماهيرية معتبرة يمكن أن تسانده في الانتخابات، وثالثها أن يطور برنامجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ، ويتسم بالوضوح، والتمايز عن المنافسين، ورابعها أن يتوافر على درجة من المؤسسية والتنظيم الفعال، وخامسها أن يتمتع بالاستمرارية والتماسك.حين نستخدم تلك المؤشرات الخمسة في معاينة الحالة الحزبية المصرية الراهنة لا نجد أن الأحزاب السياسية، التي يتعدى عددها المئة حزب، تتسم بقدر ملائم من الفاعلية السياسية؛ وهو أمر أسهمت فيه الدولة، والمجتمع، وتلك الأحزاب نفسها.مع استبعاد الأحزاب ذات الإسناد الديني؛ مثل حزب "النور" السلفي، وحزب "الحرية والعدالة" الذي تم إلغاؤه في أعقاب انتفاضة 30 يونيو 2013، وبعد إلغاء "الحزب الوطني الديمقراطي"، الذي كان ذراع مبارك السياسية والجماهيرية، قبل أن تُلطخ صورته، ويتم إقصاؤه، لا نجد أياً من الأحزاب التي يمكن وصفها بأنها تسعى إلى المنافسة على السلطة، أو تمتلك قاعدة جماهيرية صلبة، أو تطرح برامج متمايزة وقابلة للتنفيذ.والحل أن يتم اندماج تلك الأحزاب في خمسة أحزاب رئيسة كبرى؛ حزبان لليمين، وحزبان لليسار، وحزب للوسط.إذا لم تنجح السياسة المصرية في إعادة صياغة المشهد الحزبي، ستظل المخاطر كبيرة، والأثمان فادحة.* كاتب مصري
مقالات
مصر... أحزاب بلا سياسة
15-04-2018