كتبت د. لوتس عبدالكريم عن شخصية الكاتب الرومانسي يوسف السباعي أجمل الكلام، وأظن أن الكثيرين يتفقون معها في هذا الرأي: "كيف يمكن لمن كانت حياته كلها أنموذجاً، من الصعب أن يُحتذى في أقصى ما يمكن أن يوصف به إنسان من الجمال والاكتمال، أن يظل في ذاكرة محبيه عزيزاً في الممات، كما كان في الحياة؟ لقد كان مثالا نادرا للخير لا يُنسى، ولا تُمحى ذكراه أبدا، فهذا الرجل قد ترك بصمة في الزمان".مَن مِن جيلي لا يتذكر هذه الجملة التي حفظناها عن غيب: "وأنت يا توأم الروح، يا منية النفس الخالدة الدائمة، يا أنشودة القلب بكل زمان ومكان، إذا رأيت مغيبه وراء الأفق فاذكريني".
هذه الجملة الشديدة الرومانسية التي أبكتني ومازالت حتى الآن تهز القلب، كتبها يوسف السباعي في روايته "بين الأطلال" التي حولت إلى فيلم رائع، مشهد غروب الشمس كان يراه يوسف السباعي من حديقة بيته بجبل المقطم، وكم تمنيت لو كنت بصحبة لوتس عندما كانت تزوره، هذا الكاتب سكن وجدان جميع مراهقات زمني الذي كانت فيه رواياته هي زاد وزوادة خيالنا.وهذا مقتطف من كلام د. مؤنس طه حسين للوتس عبدالكريم حين طلبت منه أن يحدثها عن والده الكاتب الكبير طه حسين، فأخبرها عن الرسالة التي أرسلها والده عندما ذهب ليعمل في "اليونسكو": "لقد تعودت ألا تراني إلا باسما لك، ولكنك ستنمو وترى أن ابتسام الآباء لأبنائهم الصغار كثيرا ما يخفي اكتئابا وحزنا، وستعلم أن ما كنت أمنحك من الابتسام والرضا، وما كنت آتي معك من ضروب اللعب والدعابة لم يكن خالصا كابتسامتك ورضاك، ولا صفوا كلعبك ودعابتك، وإنما كان يخفي من ورائه حزنا واكتئابا ما كان لك أن تراهما صبيا، وما ينبغي أن تجهلهما رجلا، وما أسعد الأب حين يثق بأن ابنه يحبه محزونا مظلم النفس، كما يحبه مسرورا مشرق الفؤاد".رسالة حزينة كشفت الحزن والاكتئاب المدفون في أعماق عميد الثقافة والأدب، إذ لا النجاح ولا المجد قادر على محو وتغيير المخفي بأعماق النفس البشرية.وكتبت عن صداقتها العلمية الدينية على مدى أعوام طويلة مع مصطفى محمود، الكاتب العميق بفهمه وفلسفته للدين والقرآن ومزجه بين الفن والفلسفة والدين، فهو يصور القرآن، كأنه سيمفونية رائعة الأنغام، فيها العذوبة والتصوير البديع لآيات الله بالكون.لقد عانى مصطفى محمود حيرة فلسفية منذ بدء مسيرته، ولقد جمعني بمصطفى محمود عشقنا معا للموسيقار محمد عبدالوهاب، فكنا نلتقي ثلاثتنا في صالونه، حيث كانت الأمسيات تتناول بالبحث معجزات الله بالعلم والإيمان، فقد كان عبدالوهاب على إيمان عميق، وكان يبكي بين يدي مصطفى محمود في معظم الأحيان، ولما ألّف مصطفى محمود كتابه "عظماء الدنيا والآخرة" بكى عبدالوهاب، وهو يقول له: "عششت في مخي يا درش، إنني لست من عظماء الآخرة، لأنني من عظماء الدنيا"، وكان يعترف أمامه بأخطائه كأنه أمام كاهن، ويبكي متسائلا عن طريق للمغفرة، وكان يناديه بـ "درش"، كما كان مصطفى محمود يناديه "عُبَد الورد"، وكان صديقا محبا وعاشقا للموسيقار، فيقول له: "إن الله أعطى الفنان مساحة من المغفرة، لأنه عاشق للجمال، والله خالق الجمال".كتابة د. لوتس عن الموسيقار عبدالوهاب كشفت عن مناطق بشخصيته لا يعرفها أحد، وبذلك صححت بعض الأقاويل غير الصحيحة عنه، وأعطت انطباعا أصدق وأقرب إلى حقيقته، وهذا مقتطف: "أنه لم يكن مجرد عظيم الشأن في مجالي الموسيقى والغناء فحسب، وإنما كان أبعد من هذا بكثير، فقد كان رائدا وسفيرا للفن وفيلسوفا ومعلما وموجها ودبلوماسيا، كان مجتمعا بأكمله، وشخصية لها هيبتها وثقلها ووزنها وقرارها الذي لا يرد، كان مثالا لملحمة الإبداع المتصل بكل المجالات، وإن ما منحنا إياه من دروس تقول إن الفن جهد ومثابرة وتلمذة وإتقان ومراجعة وتهذيب وصبر وحوار.والإيمان في حياة محمد عبدالوهاب حقيقة وليس نفاقا، فلم يكن يسمي فنه شطارة أو عبقرية أو إبداعا، بل كان يسميه خواطر أو نفحات من عند الله سبحانه وتعالى، وكان إذا وفق في عدة ألحان يقول: "ربنا فتح عليّ"، أو "ربنا نفخ بصورتي"، وكان إذا أخطأ يتوسل إلى الله أن يقبل توبته."إن عبدالوهاب ولد عبقريا، خارجا عن الزمان، وظل كذلك حتى يوم رحيله".
توابل - ثقافات
سيرتي وأسرارهم (2)
16-04-2018