مرافعة : كنا متخلفين تشريعياً والقانون لا يحمينا اليوم!
المطالبات النيابية بفتح قضية الإيداعات المليونية مجددا، استنادا إلى أحكام قانون تضارب المصالح الذي أصدره المجلس مؤخرا، تحتاج إلى دراستها قانونيا قبل النظر في سلامتها، لأن تلك القضية عرضت أمام النيابة قبل سنوات ولجنة تحقيق محاكمة الوزراء، وانتهت فيها النيابة واللجنة إلى حفظ التحقيق، لجملة من الأسباب أحدها عدم الجريمة، والنقص التشريعي في محاسبة المتهمين عن الأفعال التي ارتكبوها من جراء الأقوال التي أدلوا بها أمام النيابة عن مصدر تلك الأموال من هدايا أو عطايا.فكرة عرض قضية الإيداعات المليونية بذات الوقائع والأسباب والأموال التي تم التحفظ عليها في ذلك الوقت تتعارض مع أحكام الدستور وقانون الجزاء والإجراءات، لأن قانون الإجراءات لا يجيز محاكمة المتهم مجددا عن فعل سبق محاكمته عليه، وذلك بحسب ما تقضي به الفقرة الأولى من المادة 184 من قانون الإجراءات بأنه «متى صدر حكم في موضوع الدعوى الجزائية بالبراءة أو بالإدانة بالنسبة الى متهم معين، فإنه لا يجوز بعد ذلك أن ترفع دعوى جزائية أخرى ضد هذا المتهم عن نفس الأفعال أو الوقائع التي صدر بشأنها الحكم، ولو أعطي لها وصف آخر»، وعليه فإن تقديم أي بلاغ جديد مستندا إلى ذات الوقائع والتحقيقات والأموال التي بحثتها النيابة في تحقيقاتها بقضية الإيداعات مصيره الحفظ، ولا يسع المتهمون إلا تقديم شهادة الحفظ بذلك.
ونتيجة لأمر سبق الفصل بذات الوقائع التي حققت فيها النيابة فإن إمكانية تطبيق قواعد قانونية جديدة لسد النقص الذي كان من بين الأسباب التي انتهت إليها النيابة بحفظ البلاغات عن النواب المتهمين، سواء وردت تلك القواعد الجديدة في قانون تعارض المصالح أو أي قانون آخر لم يكن معروضا، يتعارض أيضا مع أحكام المادتين 32 و179 من الدستور، والمادة 14 من قانون الجزاء.وتنص المادة 32 من الدستور على أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون الذي ينص عليها»، كما تنص المادة 179 من الدستور على «لا تسري أحكام القوانين إلا على ما يقع من تاريخ العمل بها، ولا يترتب عليها أثر فيما وقع قبل هذا التاريخ. ويجوز، في غير المواد الجزائية، النص في القانون على خلاف ذلك بموافقة أغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس الأمة».ويتضح من تلك المادتين أن المشرع الدستوري حسم أمر عدم رجعية القوانين الجزائية حتى ولو أصدرها المجلس بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس، كما حسم قانون الجزاء بنص المادة 14 منه أن «يعاقب على الجرائم طبقا للقانون المعمول به وقت ارتكابها، ولا يجوز أن توقع عقوبة من أجل فعل ارتكب قبل نفاذ القانون الذي قرر عقوبة على هذا الفعل».أما القول بأننا أمام جريمة مستمرة وبالإمكان فتح التحقيق فيها مجددا مع النواب المتهمين فهو أمر يتفق إذا كانت هناك وقائع لم يتم اكتشافها ولم تظهر حتى الآن ومازالت مستمرة وبالإمكان تكييفها حال ثبوتها وعلى أي القوانين الجزائية تكمن مخالفتها، بينما تقاضي النواب مبالغ مالية بحسب ما عرف عنها بقضية الإيداعات المالية فلا يتصور أن تكون مستمرة لسبق التحقيق فيها والذي انتهى إلى حفظها إما لعدم الجريمة أو للنقص التشريعي بها، ومن ثم فإن الأفعال المرتكبة منهم، رغم مخالفتها للعرف السياسي والأخلاقي والذمة المالية، مباحة حينها جنائيا، ولم يكن هناك قانون يجرمها على وجه التحديد، وهو الذي كشفت عنه التحقيقات، ولا يسعنا إلا أن نقول في شأن جريمة الإيداعات المليونية إننا في حينها متخلفون تشريعيا، والقانون لم يعد يحمينا اليوم!