ما رواه العقل
"هناك في أبعد عمق/ وأعمق بعد/ في آخر القاع وفي القاع الأخير/ منفيون/ يبحثون بطن الأرض بأضراسهم/ بحثا عن منفذ/ عالم سفلي /جحيم بلا أسقف / وأحفاد لأطلس يحملون ضجيج القيامة على رؤوسهم".الكويت ولادة. هكذا آمنت بها وبشبابها؛ فتيانا وفتيات. هذه البلاد الصغيرة تفاجئك دائما بمبدع أو مبدعة في أحد الأجناس الأدبية، ليقدم لك عملا أخاذا لا يمكن أن تقتنع بأنه العمل الأول له أو لها. هذه البلاد التي قد تلومها على جيل يعيش قشور الحياة ومادياتها عليك أن تتوقف طويلا أمام جيل آخر على النقيض تماما، جيل وهب وقته وجهده للإبداع، وكرَّس حياته للقراءة المتميزة، جيل تفتخر وتفاخر به.لم أكن أعرف اسم مريم العبدلي قبل معرض البحرين الماضي حين قدَّم لي أحد الزملاء ديوانها الأول (رواه عقل)، الصادر عن دار الفراشة. في البدء لم يشجعني الغلاف، ونسيت المثل الإنكليزي الشهير "لا تحكم على الكتاب من غلافه"، وبعد الصفحة الأولى وجدتني غارقا في النصوص التي حافظت على مستوى شعري ثابت دون خلل هنا أو هناك. مريم العبدلي شاعرة أرادت لتجربتها الأولى أن تكون تجربة تستحق الاهتمام والثناء. في كل نص هناك تفرد في الصورة والمفردة وجرأة كبيرة في الطرح الوجودي للصراع بين الإنسان والآلهة. جرأة يتوقف أمامها عدد كبير من الكُتاب أصحاب التجارب الكبرى.
"تصيرني الأوجاع / مجاديف تكشط الموج/ عن خد المحيطات/ يا الله كل "ما" تحتاج إلى "رب" لتصير "ربما"/ ومثلها أنا أحتاج إلى أرباب كثر/ فقط كي لا أصير". هذه الصيرورة الأزلية للكائن الذي يبحث عن سر وجوده وتعلقه بما يؤمن به وحواره الأزلي عن كونه إنسانا أو شبه إله. صراعه في فهم ما يحدث في البقاء والفناء، أسئلة الوجود وصراع الذات مع ما اكتسبته من معرفة حرة وأخرى ملقنة. هذه الأسئلة التي نتحاشاها ونحن نحاور ذاتنا عن وجودنا الآن، وما سيحدث في غيابنا لغيابنا، وما سيحدث لنا بعد غيابنا عن وجودنا الآني.ما تطرقه مريم العبدلي في عملها الأول هو التساؤل الأكبر عن علاقتنا بهذا الكون الذي عجزنا عن التفاعل معه، لا يمنعها عن الأسئلة الصعبة التابو، ولا يحد نصّها الحر الخوف من مغامرة السؤال وهيبة الشك. جاءت قصائدها تحمل ثيمة واحدة تبحث في يقين يهزه الشك، ويكاد يقضي عليه، قصائد حملت جرأة مرعبة عن علاقة الكائن بالكون وخالق الكون. هي لا تقدم لنا إجابات معلبة، لكنها تتركنا حيارى نبحث في شرعية الأسئلة، في حقيقة وجوب هذه الأسئلة كي لا نستحق الجحيم، إن نحن أعدناها فقط، لا أن نوجد لها إجابات."بالصلب لا الخشب، بالحبل لا المشنقة أؤمن، وأؤمن جدا بموسيقى الموت وعبقرية الغبار، بالريح وهي تصفع خدها عند أول صخرة، وبإله بابلي تجرَّد من مفاصله وقرر أن: يلحد".دائما أخشى على الشاعر الذي يبدع في عمله الأول من عدم الاستمرار في المستوى ذاته أو خروجه من الساحة لسبب أو لآخر. أتمنى على هذه الشاعرة أن تستمر.