سماء العصر لا تحتمل رقابة
الكلام عن السنوات الخمس الماضية يحمل في طياته قفزات مهولة في ثورة المعلومات وعالم مواقع الإنترنت، وقفزات أكبر منها في كمية تدفق المعلومات الموجودة بجعبة محركات البحث، وأيضاً تجمّع ملايين البشر حول شبكات التواصل الاجتماعي على مدار اللحظة، وليس الساعة. وهذا في مجمله يشير إلى تعايش ووقوف المجتمعات البشرية أمام عصر جديد، عصر الإعلام، وعصر الخبر، وعصر الصورة، وعصر الوصل الإنساني، وعصر الكلمة دون منازع، كما لم تكن في أي من فترات التاريخ البشري. وبالتالي صار الفرد حول العالم حُراً في وصله واتصاله بمن يشاء من البشر، وكتابة والكلام بما يشاء. وفي ظل هذه المعطيات الملموسة، ما عاد للرقابة، رقابة الكتب، في أي مجتمع من المجتمعات وجود، ولا عادت لها القدرة على الوقوف بوجه القارئ والقراءة.إن منع الرقابة في الكويت لعدد 4390 كتاباً خلال السنوات الخمس الماضية، يعني بحسبة بسيطة قيامها بمنع 878 كتاباً سنوياً، ومنع ما يزيد على 73 كتاباً شهرياً، وقرابة 2.4 كتاب يومياً.
وبحكم كوني كاتباً، ولي تجاربي مع إدارة الرقابة في وزارة الإعلام، فإنني أقول إن الرقابة على الكتب في الكويت يفترض أن تقع بعد طباعة الكتاب، وأنها تختص بفسح تداول وبيع الكتاب في المكتبات، وهي بالتالي رقابة لاحقة وليست سابقة، وأن أقصى ما يمكنها فعله هو منع تداول الكتاب داخل حدود الكويت بعد نشره. لكن الناظر إلى طبيعة اللحظة التي نحيا، يدرك تماماً أن هذا المنع ما عاد مجزياً، ولا عاد قادراً على الوقوف بوجه أي كتاب. وهذا يرجع إلى وجود ما يزيد على 17 معرض كتاب دوليا عربيا يحيط بالكويت من كل جانب، خلافاً لمعارض الكتب الدولية، وأخيراً، طلبات الكتب عبر مواقع بيع الكتب على شبكة الإنترنت، والتي تؤمن لطالب الكتاب حصوله عليه خلال 48 ساعة.كل هذه المعطيات تقول إن هناك خللاً كبيراً في آلية العمل بإدارة الرقابة في وزارة الإعلام، وتقول بضرورة التمعن في آلية النظر إلى الكلمة وإلى الكتاب، تماشياً مع طبيعة اللحظة الإنسانية التي نحيا بها. لا أحد يقف مع نشر كتاب يتعرض للذات الإلهية، أو الذات الأميرية، ولا أحد يجيز نشر كتاب يمس الديانات، باختلافها، ولا أحد يرضى بنشر كتاب يدعو لفرقة وطنية، أو نشر فكر هدام إرهابي. هذه مسلَّمات لا خلاف فيها، لكن ما يجب الوقوف عنده ملياً هو منع كتاب، سواء كان ديوان شعر، أو رواية، أو مجموعة قصصية، أو مسرحية، أو كتابا في مختلف شؤون الحياة، لا لشيء إلا لأن قراءة الرقيب الشخصية البحتة وجدت به شيئاً يظن هو بعدم جواز نشره، أو لأنه خالف قناعته الشخصية. وبالتالي يذهب الكتاب إلى رقيب آخر، ومن ثم لجنة عليا، وهكذا تدخل إجازة الكتاب في دوامة الفسح والمنع.سبق لي، يوم كنتُ مستشاراً لوزير الإعلام، وبمناسبة منع كتب الزملاء: د. سليمان الشطي، والكاتبين سعود السنعوسي وعبدالوهاب الحمادي، أن كتبت كتاباً بوقوفي من حيث المبدأ مع حرية النشر، وضد الرقابة والمنع، وشرحت بوضوح ضرورة وضع آلية جديدة لعمل إدارة الرقابة، وذلك حباً في الكويت، وسمعة الكويت، وخاصة في العصر الذي نحيا.إن تداول الصحف المحلية والعربية، وكذلك مواقع التواصل الاجتماعي، لخبر منع الكويت لعدد 4390 كتاباً خلال السنوات الخمس الماضية، ربما يكون مناسبة، ومناسبة مهمة لإعادة النظر في عمل إدارة الرقابة بوزارة الإعلام، وخاصة أن الكويت مقبلة على الدورة الـ 43 لمعرض الكويت الدولي للكتاب، بصفته التاريخية كثاني معرض كتاب عربي. وكم تستحق الكويت منا أن نقدم وجها ثقافياً مشرقاً لها!