أقل من أربعة أسابيع تفصل العراقيين عن واحدة من أغرب وأهم التجارب الانتخابية التي عاشوها مراراً منذ سقوط صدام حسين، وبعد أن انطلقت الدعاية الانتخابية مطلع الأسبوع الحالي لتستمر نحو شهر وتغرق الشوارع بمئات الآلاف من البوسترات، وتشعل السوشيال ميديا العراقية، استفز رئيس الحكومة حيدر العبادي خصومه حين اقترح تقليص مدة الدعاية الى أسبوعين فقط "تقليصا لإنفاق الأموال"، إذ يقال إن بعض منافسيه، لاسيما رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، ضخوا أموالا هائلة لإقامة تجمعات جماهيرية متواصلة لمناصريهم، بحيث لا يمتلك العبادي نفسه قدرة مالية مثلها كما يبدو.

لكن المفارقة هي أن رئيس الحكومة السابق، رغم الامكانيات المالية الكبيرة، لم يجد ما يقوله ولم يعثر على قضية يصنع منها برنامجا انتخابيا يلفت الأنظار، إلا أنه يردد شكوى من رفيق دربه العبادي الذي هيمن على حزب الدعوة وأصبح يسرق الأضواء يوما بعد آخر، حتى انه يمكن القول إن البرنامج الانتخابي للعبادي يغري جميع العراقيين بمن فيهم العرب السنة والأكراد، إذ لأول مرة تظهر قضية تجمع كل الأطراف، وهي أن الانتخابات يجب أن تمنع المالكي من العودة الى السلطة.

Ad

ولعل ذلك هو ما جعل العبادي يشعر بعدم وجود ضرورة لاستمرار الدعاية الانتخابية أكثر من اسبوعين، وأن خلاف ذلك هو مجرد تبذير للمال، كأنه يقول للمالكي وللميليشيات الحليفة لإيران: وفروا نقودكم لأمر آخر، فأنتم خارج السباق سلفا.

ومع ذلك فإن في حوزة العبادي أوراقا رابحة كثيرة، فقد جعل معظم منافسيه يشعرون بالاطمئنان حين تدخل، حسب مصادر مطلعة، ومنع اجتثاث المرشحين المتهمين بالصلة مع حزب البعث المنحل، وهذا يحصل لأول مرة، إذ شهدت التجارب الانتخابية السابقة حرمان مئات المرشحين والقيادات البارزة العلمانية والسنية، خصوصا في حزب رئيس الوزراء الأسبق اياد علاوي والقوى البارزة في الأنبار ونينوى، لكن التهدئة الشاملة في العراق منحت العبادي فرصة أن يغير هذا التقليد سيئ الصيت.

ومن جهة أخرى، فإن ظروفا كثيرة تساعد العبادي والجناح المعتدل المتحالف معه، فهو لا يكاد يبقى في مكان واحد، إذ يتنقل لافتتاح مصانع اسمنت عملاقة بشراكات استثمارية محلية عربية وكردية الى درجة مكنت العراق من منع استيراد الاسمنت الإيراني، في حدث ذي دلالة بالغة، كما تقبل شركات أميركية ويابانية على مساعدة العراق في افتتاح مشاريع كهرباء يمكنها أن تجهز البلاد بطاقة كاملة لأول مرة منذ ثلاثة عقود.

وساهم صعود أسعار النفط في تمكين الحكومة من إطلاق ديون المقاولين التي تأخرت اربعة أعوام، في إشارة الى أن "اعوام القحط" قابلة للزوال، ويقال إن الموازنة المالية تضمنت فقرات سيعلن عنها قبل الانتخابات بيومين تفيد بتعيين ربع مليون عاطل عن العمل، وهو ما سيكون ترويجا كبيرا لموسم التعافي الاقتصادي الذي يدعم سياسات الجناح المعتدل، مقابل جناح المالكي والميليشيات الذي بقي خالي الوفاض من أي إنجاز.

ولم يكن في وسع العبادي أن يصنع ذلك بدون دعم كبير من حلفائه في النجف، خصوصا المرجع الأعلى علي السيستاني ومقتدى الصدر، الى جانب تهدئة متعقلة بين الأحزاب العلمانية والسنية، وتصالح متسارع مع الأكراد مؤخرا، الى جانب دعم دولي لم يحظ به أي رئيس حكومة سابق في العراق، حتى ان الأردن ولبنان، وهما مكان تقليدي لإقامة المعارضين العراقيين منذ الستينيات، قامتا بتسليم مطلوبين بارزين بقضايا فساد الى الحكومة العراقية، وهو ما يحدث لأول مرة، مثل وزير التجارة الأسبق فلاح السوداني (من حزب العبادي نفسه)، وكذلك زياد القطان المسؤول عن صفقات تسلح قديمة في وزارة الدفاع، إضافة إلى مسؤولي مصارف سابقين، وهي أخبار تجعل الجمهور يشعر بأن هناك مرحلة مختلفة تدخلها البلاد، لكنها تشعر الجناح المعارض للحكومة بأن الماراثون الانتخابي "انتهى مبكرا" في غير مصلحتهم.