يميز اليوميات عن سائر الأجناس الأدبية الأخرى طابعها العفوي الذي يوفِّر على الكاتب الترصيع البلاغي والصنعة في الكتابة. كذلك الشروع في تدوين اليوميات لا يُحتِّم على صاحبها تناول ما يحبهُ الآخر بقدر ما أنَّ الأمر هو محاولة لرؤية الذات كما هي من دون رتوش وأحجية لغوية. لذا من الطبيعي أن تكونَ اليوميات مُختلفة على مستوى شكل وترتيب المادة بينما تُنظمُ المادة الروائية في الفصول أو تأتي مُنجمة، فإنَّ ما يهمُ في هذا الفن هو التاريخ وكما يقولُ فليب لوجون «ضع التاريخ وقلْ ما تشاء»، وقد تجد صفحات مؤرخة بتاريخ يوم ما لا تتضمَّن غير جملة واحدة.فضلاً عن ذلك تراقب في يوميات الكُتّاب صراعهم مع مشاريعهم الأدبية ومُعاناتهم في تطويع الكلمة، هذا ما يفصحُ عنه آرنست همنغواي في «باريس وليمة دائمة». هنا يمتدُ الضوءُ إلى الجانب المحجوب من حياة المبدع، إلى جانب اكتشاف ما يغذي الموهبة من القراءات، كما يشير إلى ذلك الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا في يومياته.
وغالباً ما يكونُ الدافع الأساسي إلى تسجيل اليوميات المكان الذي يعيشُ فيه الكاتبُ، وذلك يُعللُ عنونة بعض الأعمال المكتوبة باسم المدينة مقترناً بمفردة اليوميات كما ترى ذلك في «يوميات طنجة» للكاتب الأميركي بول بولز. ولولا فرادة تجربة الكاتب والروائي التونسي كمال الرياحي في الجزائر العاصمة حيثُ استمرت مدة إقامته بين أكتوبر 2009 وأبريل 2010 ربما لم يُسَجِلْ يوميات الأشهر التي أمضاها هناك في «واحد- صفر للقتيل يوميات عربية» الصادر حديثاً من «منشورات المتوسط» والحائز جائزة ابن بطوطة. فعلاً، فتلك التجربةَ كما يعرضها صاحبُ «عشيقات النذل» تتصفُ بالغرابة بدءاً من المكان الذي يسكنُ فيه مروراً بمشاهداته في المدينة التي يُفاجأ ببعض طقوسها ومناسباتها الرياضية إبان تصفيات كأس العالم لسنة 2010 وما يحومُ من خطر الإرهاب والاغتيال السياسي في فضاءات المجتمع وصولاً إلى تفاقم الملل من رتابة العمل كمدقق ومترجم.
خارج التحشم
يُقشر كمال الرياحي نفسه في مؤلفه الجديد بجرأة تصل إلى درجة القسوة على الذات ويكتبُ بلغة ثائرة مُطارداً شبح القتيل في شقة كائنة بمنطقة الإيبار. وأحياناً يجد حتى أبواب الحديقة موصدة من دونه. وهو لا ينقطعُ عن متابعة أخبار انتخابات تونس يدوِّن في الصفحة المؤرخة بـ25 أكتوبر، أي بعد مرور 20 يوماً على وجوده في الجزائر نتائج الانتخابات في بلده. أكثر من ذلك، لا ينسى موت الفنان زبير التركي متسائلاً هل نجا هذا الفنان الذي نحت تمثال ابن خلدون عندما رحل قبل الانتخابات؟ ثمَّ يتذكرُ إضرابه عن الطعام مطالباً بحقه في العمل وما أعقب ذلك من تهديدات. وفي مقطع من يوميات 21 أكتوبر يضعك إزاء ما ينهشه من الوحدة القاتلة، إذ يزرع المكان كجمل الساقية معصوب العينين على حد تعبيره، مُقلباً صور ابنه هارون، وترنُ بشارة القاضي يحياوي بشروق عصر الأحرار في إذنه قائلاً بنبرة ممزوجة بالأمل والريبة هل ستكون يا ابني من الأحرار؟ من نافلة القول التذكير بأن مفهوم الأحرار لدى الكاتب غير ما يردُ في خطاب الرجل الموالي للسلطة. جانب آخر مما تفصحُ عنه هذه اليوميات هو كواليس تأليف رواية «الغوريلا»، إذ يقعُ الروائي حسب رأي كمال الرياحي في مطب التحدث بلسان شخصيات مُختلفة مرة بلسان أحمق أو بلسان عالم أو طفل ويكشفُ مؤلف المشرط عن مأزقه بلسان إحدى شخصياته المثلية «شاكيرا» في «الغوريلا».يشار إلى أن الكاتب في الصفحة التي تحملُ تاريخ 25 نوفمبر يُسهبُ عن اشتغالاته على هذا العمل واتكائه على الكتب والمراجع للتوصل إلى طبائع الشخصيات مثل «موجز تاريخ الأرداف» لجان هينينغ. وتفضيله ظهور الراوي العليم في دور الكومبارس مثل ما هو قائم في أفلام هيتشكوك وتارانتينو. وما يهمُ أن الكاتب لم يكن متأكداً من أنَّ يومياته ستبصر نوراً بين دفتي كتاب لحظة مزاولتها. ما يبدو أساسياً في هذه اليوميات هو ما تقوم عليه حياة الكاتب من فعلِ الكتابة والقراءة وملذات الحياة الأخرى. ولا يتجاهل تأمين حياته العاطفية أيا كان الوضع أو حالة المزاج العام، معبراً عن رأيه بأنَّ الشعوب التي تشهر السكاكين بوجه بعضها هي شعوب لم تشبع من ممارسة العلاقات الحسية.الرياحي والكرة
بخلاف الروائيين الذين كان عندهم شغف بكرة القدم في مرحلة عمرية أمثال نجيب محفوظ، وألبير كامو، فإن كمال الرياحي يمقتُ لعبة الكرة واصفاً إياها بأفيون الشعب. ولعلَّ ما ضاعف من كرهه هذه اللعبة الشعبية أن مدة إقامته في الجزائر كانت متزامنةً مع الصراع الذي نشب بين مصر والجزائر جراء لقاء فريقيهما في تصفيات نهائيات كأس العالم. إذ يدلي الرياحي الصفحة المؤشرة بتأريخ 27 نوفمبر حول النزاع الكروي الذي تورّط فيه الفنانون أيضاً مطلقين عنانهم لعبارات لاذعة بأن هذه الحرب والوطنية الزائدة عن اللزوم والتضحية بمصدر رزق العمال المُهاجرين... ذلك كله ليس إلا التفافاً على ما يعانيه الشعب من الكد وشظف العيش والحرمان من الحرية، وبهذا الصدد يتذكّر كمال الرياحي نتائج الانتخابات في الجمهوريات العربية مُلاحظاً إلى تقاربها في نسبة الأصوات التي فاز بها كل رئيس مؤبداً. كأنَّ بذلك يلفت انتباه بأن الصراع الحقيقي ليس بين الشعوب وفي المُستطيل الأخضر إنما في الميدان والشوارع ضد الحُكام.ويُصرفُ كمال الرياحي شحنات غضبه على القنوات التي تصبّ المياه في طاحونة الصراع بانغماسه في ملذات حسية بروحية أبيقورية مُتصيداً لحظات ملؤها الشبق، ويصرحُ في هذا الإطار بأنه لا يتذكر من النساء اللائي مررن به إلا نسيمة ونعيمة، الأولى هي من كتبت له «أنا حجزتُكَ إن فكرت بغيري سأقتلك» عندما نشر في «فيسبوك» أنَّه يحلُ على الجزائر. بينما الثانية اشمأز منها حين احتجت على كتبه. وبذلك نتفهمُ أنَّ المرأة غير المتصالحة مع الكتب لا تتسعُ لها شقة كمال الرياحي، كما لا يترددُ في التضحية بامرأة لا تقرأ للتفكير في امرأة تقرأ.وفي السياق ذاته، يستعيدُ كمال الرياحي في صفحات يومياته لحظة تعرّضه لطعنة بسكين في 1993. حينذاك، كان يعملُ مهرباً للملابس ولولا تلك الطعنة لما اكتشف حنان والده وخوفه عليه. عطفاً على ما ذكر، فإنَّ الكاتبَ يشيرُ إلى أنَّه عاشر أبناء الأسرة وإمعاناً في إضفاء التفكه على هذا الترتيب يقارنُ نفسه بنجوم الكرة مارادونا، ورونالدو، وبليه، وبلاتيني، وديل بيرو. هؤلاء يحملون الرقم عشرةَ في الملاعب، والأغرب مما يُذكرُ في هذه اليوميات أن الوالدة أرادت أن تتخلص من الكاتب وهو في الطور الجنيني. أضف إلى ذلك اعتراف كمال الرياحي بأنه عندما أصبحَ أباً قد بكى والبوح بما يضمرهُ من الحزن تحت الضحكات المتجلجلة.تحفلُ طيات هذا الكتاب بمغامرات المؤلف وهو طفل في القرية بأسماء الكتب والشخصيات الأدبية (بودلير، وهمنغواي، وأريك سيغال، وساباتيرو، وكافكا) ويتفاعلُ النص ونصوص هؤلاء الكتاب كما وجد مؤلف «الغوريلا» في محاورة نصر حامد أبو زيد منفذاً يخفف من الغربة. كذلك لا تخلو مقاطع الكتاب من الكوابيس وتهويمات المؤلف بأن الشخص الذي قُتل في شقته يشاركه في الأطعمة كما يتخيل توافد الكتاب المُغتالين على شقته. ويختلط بين مديحة كامل ومضيفة الطائرة وفتاة البار. بيد أن هذا المناخ الكابوسي والهذياني لا يأتي على حساب الدعابة والسخرية التي هي أداة لتفحص ذاتي من دون غطرسة وتكبر على حد قول كيركيجارد. بقي أن نقول إن عنوان المقال مستوحى مما يذكره كمال الرياحي بأنّه لا يملك صوراً لطفولته باستثناء صورة واحدة ويبدو فيها جانب من وجهه مثل المجرمين.