حل مصري لأزمة سورية
في الأسبوع الماضي تفجر خلاف مثير للاهتمام، على خلفية الأنباء التي تم تداولها بخصوص رد سورية وسام شرف كان الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك قد منحه لنظيره السوري بشار الأسد، حينما كان الود متصلاً بين الدولتين في عام 2001.كان شيراك قد منح بشار الأسد، الزعيم الشاب الطامح إلى التغيير آنذاك، وسام "جوقة الشرف الفرنسي" من رتبة الصليب الأكبر، وهو أحد أرفع الأوسمة التي تمنحها الدولة الفرنسية للقادة والزعماء والأشخاص المرموقين.لكن الأوضاع الحالية باتت مختلفة تماماً عن تلك الأيام الخوالي؛ إذ تشارك فرنسا في الهجمات التي تشنها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ضد سورية، وتتهم الرئيس بشار بأنه استخدم أسلحة كيماوية محظورة دولياً ضد مواطنيه، وترى وجوب رحيله عن السلطة.
تقول الحكومة السورية إنها هي من تخلى عن هذا الوسام، لأنه لا يصح أن تحتفظ به كونه ممنوحاً من "دولة تابعة للولايات المتحدة"، تعتدي على سورية، بينما تقول الحكومة الفرنسية إنها هي من أعلن قبل ستة أيام نيتها سحب الوسام، الذي لا يصح أن يبقى بيد "رئيس نظام يقتل شعبه بالأسلحة الكيماوية".على أي حال ثمة الكثير مما يمكن أن نستخلصه من عبر من هذه الواقعة، وهي عبر تعكس بدقة الوضع الذي باتت فيه سورية عموماً والجدل الدولي المصاحب للهجمات الأخيرة التي تم شنها ضدها.إن معظم المواقف الدولية التي تتشكل إلى جانب نظام الرئيس بشار أو ضده راهناً ليست مواقف مبدئية كما يظن البعض، لكنها مواقف محكومة بحسابات دقيقة للمصالح الآنية.لم تكن فرنسا وحدها التي تبدلت مواقفها إزاء حكومة بشار الأسد، فمثلها فعلت تركيا، التي ذهب رئيسها إردوغان إلى أبعد من ذلك حينما كان رئيساً لوزراء بلاده.ارتبطت تركيا بعلاقات قوية وواعدة مع سورية قبل اندلاع الانتفاضة في عام 2011، وأزال البلدان الحواجز بينهما في إعلان واضح عن درجة عالية من التكامل والتنسيق.لم يكن بشار الأسد رئيساً ديمقراطياً، وكان الجميع يعلم أنه ورث السلطة عن والده، ضارباً عرض الحائط بمقتضيات الحكم الجمهوري، ولم تكن المعلومات غائبة بخصوص نهجه السلطوي، وأداء أجهزته الأمنية القمعي، وانتهاكه لحريات مواطنيه.ومع ذلك، فقد كانت مقتضيات المصلحة السياسية تقود هذه الدول إلى إقامة علاقات متوازنة، وأحياناً جيدة، مع النظام السوري، وهو الأمر الذي تغير بوضوح الآن.لا تخلو السياسة الخارجية المصرية من أخطاء وقصور وخلل، وهي كامتداد للسياسة الداخلية للبلاد، لا شك تأثرت بالاختلالات العميقة والحادة التي وقعت منذ اندلاع انتفاضة 25 يناير 2011، ومع ذلك، فإن الموقف المصري إزاء سورية، وحكومتها، يبدو أحد أكثر المواقف اتساقاً مع الحس الاستراتيجي.فرغم أن مصر تعد جزءاً من تحالف سياسي عربي رئيس يضم دولاً مثل السعودية والإمارات والبحرين والكويت والأردن، فإنها اتخذت موقفاً حيال سورية مختلفاً، وربما دفعت أثماناً لهذا الاختلاف. كانت ثوابت مصر إزاء الأحداث في سورية واضحة؛ فهي رفضت المساس بالسيادة الوطنية، وعارضت شن العدوان، ودعت إلى صيانة التماسك الإقليمي والوحدة الترابية للبلاد، كما هاجمت أعمال العنف، واستهداف المدنيين، وأنشطة الميليشيات، ودعت إلى مواجهة التحدي الإرهابي الذي أخذ يترعرع بموازاة تضعضع سلطة الدولة.تعرف مصر أن نظام بشار الأسد استخدم أساليب قمعية مخالفة لمعايير حقوق الإنسان، وأنه يحكم بطريقة شمولية، وأنه تورط في ارتكاب جرائم ضد شعبه، لكنها مع ذلك أدركت أن تكاليف إطاحة مثل هذا النظام من دون ترتيب لأوضاع سياسية مستقبلية مستقرة، أو قابلة للاستقرار، أكبر وأخطر وأفدح أثراً.تربط مصر بسورية علاقة نادرة وخاصة؛ إذ سبق أن كان البلدان بلداً واحداً، حين تحققت الوحدة في عام 1958.صحيح أن الوحدة لم تستمر، وأنها كشفت عن أخطاء جوهرية وقصور بنيوي في الفكر السياسي العربي والتجربة الناصرية الآسرة والنافذة آنذاك، لكن مع ذلك، ظل هناك ما يُرسخ في اعتقاد الأطر الفاعلة في سياسة البلدين أنهما يمكن أن يكونا بلداً واحداً.قاتلت سورية إلى جانب مصر، وحدث العكس، خصوصاً حينما اندلعت حرب أكتوبر 1973، وقبل ذلك بكثير، لذلك، فإن الاعتقاد السائد بأن الأمن القومي لمصر يبدأ من سورية يجد له سنداً واضحاً في التاريخين المعاصر والبعيد.تعتقد النخبة السياسية الحاكمة في مصر راهناً، وخلفيتها عسكرية كما نعلم، أن تقويض سيادة سورية، وهدم الدولة الوطنية بها، يعني أن تكون تلك المساحة مرتعاً للميليشيات الإرهابية، التي سيمتد أثرها إلى المنطقة بأسرها. وإضافة إلى ذلك فإن تلك النخبة تعتقد أيضاً أن سقوط الدولة السورية يمكن أن يهدد سلامة الدولة المصرية واستمراريتها.لا يمكن الدفاع عن موقف أي حكومة تستخدم الأسلحة الكيماوية المحرمة دولياً ضد مواطنيها، لكن شن الهجمات ضد دولة من دون تحقيق شفاف ونزيه، وإبراز أدلة، وإعلان إدانة واضح، لا يمكن أن يكون عملاً مسؤولاً.يجب ألا تقبل الدول العربية أن يكون بشار الأسد جسراً تعبر عليه إيران لكي تستبيح الأمن القومي العربي، وتهدد المصالح الوطنية العربية.لكن حرمان إيران من مزايا تحالفها مع الأسد يجب ألا يكون ثمنه سورية وشعبها ومعها ما سيترتب على إطاحة عالمها من تهديدات جوهرية للأمن القومي العربي.ولأن مصر لم تتورط في تأجيج أي استهداف ضد حكومة بشار الأسد، ولم تغير موقفها الداعم لوحدة الدولة السورية وسلامة أراضيها، فإن بوسعها، إذا حصلت على ثقة حلفائها العرب، أن تؤدي دوراً في إيقاف القتل والجنون وبناء مسار لتفاوض جاد، يمكن أن يفضي إلى "حل وسط"، يحقق قدراً من المصالح المتوازنة للأطراف المنخرطة في الصراع، من دون التورط في المزيد من الخسائر التي لن يمكن تعويضها لاحقاً.وكما نعلم فإن السياسة تقتضي أحياناً أن تمنح طرفاً ما وساماً، وأن تسحبه لاحقاً، وهو أمر يمكن أن ينطبق أيضاً على الحرب والسلم والتحالف والعداء.* كاتب مصري