الخروج عن النص
في بعض الأحيان تتهرب التنظيمات السياسية المدنية الديمقراطية من الاعتراف بمسؤوليتها عن عدم الخروج على نصّ الحكومة، فتعزو ذلك إلى ظروف موضوعية لا ذاتية، صحيح أن هناك تهميشاً سياسياً لقوى التغيير والتقدم واحتكاراً للسلطة وإغلاقاً للمجال العام وتقييداً للحريات وتحويل منظمات المجتمع المدني إلى منظمات شكلية تابعة للحكومة، لكن مسؤولية هذه القوى الحيّة ألا تستسلم لظروف الواقع.
من الطبيعي أن يكتفي الإنسان العادي بالحديث عن مظاهر الفساد السياسي الكثيرة التي يراها يومياً، أما السياسي أو المثقف الحقيقي فيفترض ألا يكتفي بذكر أعراض الفساد ومظاهره التي يعرف الناس تفاصيلهما المُزعجة فقط، بل عليه مسؤولية البحث عن الأسباب الجوهرية لاستشراء الفساد السياسي وكشفها لعامة الناس، ثم طرح البديل العملي المتضمن كيفية معالجتها بحيث تختفي، بعدئذ، الأعراض والمظاهر المؤذية التي يرصدها الناس في حياتهم اليومية.وعندما يستسلم السياسيون والمثقفون والمهتمون بالشأن العام للحدود الضيقة التي تُحددها السُلطة لتحركاتهم ومطالبهم أو الالتزام بحرفية النصّ الذي تضعه لهم، فإنهم، في هذه الحالة، يسهمون في تضليل الرأي العام، ويفقدون مصداقيتهم أمام الناس، ثم يصبحون لعبة في يد السلطة أو الحكومة التي من الممكن أن تمنحهم أحياناً حق الصراخ كي يعيشوا تحت وهم شعور زائف بأن لهم دوراً في الحياة السياسية.
إن هناك فرقاً شاسعاً بين التعامل مع معطيات الواقع السياسي وظروفه المعقدة والمتشابكة والمتناقضة أحياناً، وبين الاستسلام أو الرضوخ للواقع وعدم العمل الجاد على كسب الرأي العام، وتغيير موازين القوى السياسية لمصلحة التغيير والتقدم الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار أن عملية التغيير الاجتماعي-السياسي ليست ضغطة زر، بل عملية مضنية وطويلة لا تحدث بين ليلة وضحاها، وتحتاج إلى رؤية ثاقبة تحدد المهام المرحلية والأهداف الاستراتيجية، ثم تحتاج أيضاً نَفساً طويلاً وعملاً دؤوباً ومستمراً لا يستسلم لظروف الواقع، فيبقى يدور في حدود النص الذي تضعه الحكومة.وفي بعض الأحيان تتهرب التنظيمات السياسية المدنية الديمقراطية من الاعتراف بمسؤوليتها عن عدم الخروج على نصّ الحكومة، فتعزو ذلك إلى ظروف موضوعية لا ذاتية، صحيح أن هناك تهميشاً سياسياً لقوى التغيير والتقدم واحتكاراً للسلطة وإغلاقاً للمجال العام وتقييداً للحريات وتحويل منظمات المجتمع المدني إلى منظمات شكلية تابعة للحكومة، وإقرار أنظمة انتخابية مُشوّهة وسيئة تنفرد الحكومة في وضعها، علاوة على فتح الباب منذ منتصف سبعينيات القرن المنقضي أمام جماعات الإسلام السياسي والمجاميع المحافظة وتشجيعها مالياً ومعنوياً على التوسع الجماهيري وتسيد المشهد السياسي كما نرى الآن.ولكن الظروف الموضوعية القاسية موجودة على الدوام، ومسؤولية العناصر والقوى المدنية الديمقراطية الحيّة، أي قوى التغيير والتقدم الاجتماعي، ألا تستسلم لظروف الواقع، ثم تضيع في لجة التفاصيل اليومية التي لا تُعد ولا تُحصى، بل عليها أن تفهم طبيعة المرحلة ومتطلباتها، ثم تتعامل مع الواقع بشكل عملي ومتجدد، وهذا يتطلب مراجعة نقدية فكرية وسياسية دائمة، والإبداع في تشكيل أطر جبهوية عريضة تطرح بديلها المدني-الديمقراطي بشكل واضح، ثم تعمل على إقناع الناس به مثلما تفعل قوى التغيير والتقدم الحيّة في العالم والتي يعاني بعضها استبدادا سلطويا وظروفا قمعية ومعيشية في منتهى القسوة والبشاعة، لا وجه لمقارنتها بظروفنا السياسية.