تنوير : كوارث عربية (2): انتهاك الخصوصية
نحن لا نعرف معنى الخصوصية؟ نخلط بسذاجة جاهلة بين المجال العام والمجال الخاص. هذا حال الثقافات العربية بصورة عامة، إلا من رحم ربي ممن عرفوا بالمصادفة أو بالاجتهاد الذاتي أن لكل إنسان الحق في ارتداء ما يريد، وأكل ما يريد، وشرب ما يريد، والإيمان بما يريد، ما دام لم ينعكس ذلك على سلوكه العام، ولم يتسبب في انتهاك حقوق الآخرين.يمارس بعضنا على بعض اعتداء علنياً اكتسب مشروعية عرفية من طول الممارسة، وغياب القوانين التي تحمي خصوصية الفرد في معظم الثقافات العربية. حين تقف في إشارة مرور فتقتحمك نظرات من حولك بصورة اعتيادية. والويل الويل إن كان من يقود السيارة امرأة، ستطول النظرات المتفحصة، وستتلوها محاولات {استظراف} واقتحام بالكلام. غير أن وضعية المرأة في الثقافات العربية تعد كارثة مستقلة تحتاج إلى عشرات المقالات كي توفى حقها. الاعتداء على الخصوصية يصل في الثقافات التي يضربها الفقر الاقتصادي والمعرفي إلى حدود غرف المنزل، حين لا يكون الفاصل بين البيوت أكثر من ثلاثة أمتار.
لا ينفصل موضوع الخصوصية عن أمور أولية تؤسس له، وهي جميعاً أمور يمكن حسبانها من مكتسبات التجربة البشرية عموماً. من تلك الأمور دولة القانون والمواطنة التي لا تفرق بين عربي وأعجمي، إلا بالإخلاص في العمل والإبداع ومدى القدرة على إفادة المجتمع، إضافة إلى الصلاح الأخلاقي في المجال العام. جّرب الإنسان أشكالاً مختلفة لإدارة المجتمع وتسيير الأمور بين أفراده بما يضمن أفضل حقوق للفرد وأكبر إفادة للمجتمع. جرب البشر العصبية القبلية وتجبّر طبقة النبلاء والإقطاعيين، وعانوا الأمرين من الديكتاتورية باسم الأمة أو باسم الدين. كما وقع العالم ضحية أفكار التفوق العنصري الطبيعي في حرب عالمية أهلكت ما يزيد عن ثمانين مليوناً، ولم يجد الإنسان الذي دفع الثمن باهظاً سوى دولة القانون الأعمى الذي لا يرى من يقف أمامه، إنما يرى الحقوق والواجبات مجردة من أية ملامح أو مصالح. كذلك استقر الإنسان الذي عرف ويلات الحروب وتحكم رجال الدين في السلطة وفساد النبلاء، على المواطنة المتساوية التي تحدد واجبات الفرد، وتضمن حقوقه وعلى رأسها الخصوصية والقدرة على ممارسة حريته، ما دامت لم تمس حريات الآخرين أو تعرض سلامة المجتمع للخطر.تتصل الخصوصية أيضاً بمستوى الرقي المعرفي في الثقافات الإنسانية، فتعرف الإنسان العلمي الموضوعي قدر الممكن إلى جسده ونفسه وعالمه الطبيعي والروحي، وتمكّنه من تجاوز الأنانية الطفولية التي تدفعه إلى محاولة السيطرة على الآخرين، ومن تجاوز الجهل الذي يجعله مندفعاً كالحريق نحو إصدار الأحكام المتسرعة، ومنح نفسه حقوقاً على الآخرين لا يقبل أن يمارسها عليه الآخرون. التفكير في مسألة الخصوصية التي يحميها القانون والعرف معاً، يمكنه أن يكشف خللاً عظيماً في الثقافات العربية، إذ يمارس الجميع بصورة بديهية انتهاكاً يومياً لخصوصيات الجميع، وتغيب التشريعات، أو التطبيقات (إن كانت التشريعات موجودة)، التي تحمي هذه الخصوصية، حتى تحوّل الأمر إلى جزء من مجتمعاتنا التي تحتاج إلى إعادة تأهيل معرفي وإنساني في كثير من ممارساتها.