الحسبة غلط!
ما الحكمة من احتساب العمر بالسنوات؟! ما الحكمة من جمع كل لحظات العمر الكثيرة جدا وأيامه في أكياس قليلة من السنين؟! إن حصر أعمارنا في سنين يسهل عدُّها أفقدنا الإحساس بقيمة الأجزاء الصغيرة من تلك السنين، وجعلنا نعتاد استصغار قيمة الأيام والساعات واللحظات التي هي عماد أعمارنا، واعتدنا على أن ضياع لحظة من عُمر ليس بالأمر المثير للفزع، ولا حدثاً يستوجب الندم.
الساعة المهدرة في حسابنا ليست سوى جزء تافه من أعوام مليئة بالساعات البديلة، والشمس التي تغرب اليوم ستظهر شمس أخرى بديلة لها في الغد، والقمر الذي يترك عرشه في الصباح سيأخذ مكانه قمر آخر في المساء التالي، والأوقات التي نسقي بها طين الأماني ولم تثمر شبابيك فرح لن نمانع بأن نعيد سكبها في ذات الطين، ليشربها الجفاف، غير عابئين بما نهدره من كيس الزمن، إلا إذا كان بإمكاننا احتسابه بالسنين. أما ما يتسرَّب من أصابع العمر من ساعات وأيام، فهو في عداد المهمل، الذي لا قيمة كبرى له تستحق أن نعيرها انتباهاً، أو تستدعي صحوة من غفلة. لو أن العمر يتم احتسابه بالثواني أو الدقائق، لأعدنا لكل لحظة فيه قيمتها واعتبارها، وأصبح لأجزاء الوقت الصغيرة أهميتها، فالانتظار الذي يمشط الدقائق لن يضمخ جدائله بماء الورد ودهن العود، ولن تطير اللحظات خفيفة كالريش من بين أيدينا، ستكون أثقل وزنا، وأكثر قدرا في أعمارنا، وأكثر اتساعا لروض أحلامنا وعصافير أمانينا، ولن نسقط احتساب الساعات الضائعة من موقد العمر، وسيصدمنا حينها أن ما حسبناه جمر السنين المتقد ليس سوى رماد أيام بارد يسكن خطوط الحياة في راحة أيدينا، وأن أكثر ما تحتويه أكياس السنين التي نثقل كاهلنا بحملها علب من اللحظات فارغة ليس لها قيمة وجثث ساعات ولدت بلا نبض، وثوان هاربة من حياتنا اليومية حسبناها لا تؤثر على مجمل العمر الذي يتم احتسابه بالسنوات. لو كان العمر يحتسب بالثواني، لاختلفت أهمية تلك الثواني، واختلف تقديرنا لها، ولتمنينا أن يُعاد العمر لأخذ ذلك في الحسبان، لنعطيها ما تستحق من رعاية واهتمام، ولأحسنَّا استغلالها بسقاية المثمر فقط من شجر أفراحنا، ولما سرقت من أعمارنا أعمار، ولأعدنا النظر في كثير من المواقف التي نتخذها في حياتنا على ثقة منا بأن لدينا من الوقت لإصلاح العطب الذي يصيب قلوبنا، ولاختصرنا كثيرا من الوجع، ووفرنا على صدورنا مشقة كثير من الحزن، وعلى مآقينا كثيرا من الدمع. إن ما أفسد حُسن استغلالنا لأعمارنا احتسابنا لها بالسنين، وليس بالثواني.