يوم الثلاثاء الماضي، فاجأ الرئيس الأميركي ترامب العالم بتصريح جديد من تصريحاته النارية؛ حين قال: "إن دولاً في الشرق الأوسط لن تصمد طويلاً في حال رفعت الولايات المتحدة الحماية عنها، وعلى تلك الدول أن تدفع ثمن ذلك".

يمكن تفسير تصريح ترامب بأنه أحد انفلاتاته الصارخة التي عُرف بها منذ أطل على المشهد العالمي بترشحه لرئاسة أقوى دولة في العالم، كما يمكن اعتباره "تصريحاً فجاً"، ينطوي على اقتراب غير ملائم، ويستخدم لغة غير دبلوماسية.

Ad

سيسعى نقاد ومحللون إلى تأويل تصريح ترامب المثير للجدل، وسيجتهد آخرون في توقع أسماء الدول التي قصدها من تصريحه، بينما سيصف ساسة في المنطقة هذا الحديث بأنه "وقح"، في جلساتهم الخاصة، لكن المؤكد أن هذا الكلام مس عصباً حساساً... وهو على الأرجح عصب مكشوف.

وببساطة شديدة، فإن دولاً في المنطقة كبيرة أو صغيرة، وعريقة أو حديثة التكوين، لا تمتلك من وسائل القوة الشاملة ما يُمكّنها من صد التهديدات التي قد تتعرض لها، ومجابهة التحديات الأمنية والاستراتيجية التي تستهدفها، بسبب الخلل الواضح في موازين القوى من جانب، ووجود مصادر تهديد تمثلها قوى طامعة وطامحة وشرهة إلى التغول والنفوذ من جانب آخر.

وهنا يثور سؤال مهم: "هل يقتصر هذا الأمر على منطقة الشرق الأوسط فقط؟ وإذا كانت الإجابة لا، فما الذي تفعله دول أخرى في مناطق أخرى من العالم حين تكون في الظرف ذاته؟".

إن اختلال موازين القوى نسق متكرر، بل يمكن القول إنه دائم الحدوث في مناطق العالم المختلفة، وبسبب هذا الاختلال، فإن العديد من الدول وقعت في الظرف ذاته، لكن الطريقة التي يتم التعاطي بها مع مثل هذا العوار الخطير تبدو متباينة؛ وهي في كل الأحوال صالحة لكي نستخلص منها العبر.

تعيش الولايات المتحدة إلى جانب جارتين؛ إحداهما في الشمال هي كندا، وثانيتهما في الجنوب وهي المكسيك، ورغم أن تباينات القوة بين واشنطن وجارتيها واضحة وشاسعة، فإننا لم نسمع أنها، رغم كل شراهتها للتدخلات وبسط النفوذ وتغيير الأنظمة بالقوة واحتلال بعض الدول، استطاعت، أو رغبت في أن تجور على سيادة أي من جارتيها.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً، فسنكتشف أن واشنطن دخلت صداماً حاداً معلناً مع كوبا في عهد فيدل كاسترو، وأن هذا الصدام ارتفعت حدته إلى درجة قياسية، هددت في إحدى ذراها بقيام حرب عالمية تُستخدم فيها الأسلحة النووية، ومع ذلك، فإن واشنطن لم تنجح في غزو كوبا، أو كسر شوكتها، أو إطاحة حكم كاسترو.

تعيش دول صغيرة الحجم، ومتخمة بالثروات في القارة الأوروبية؛ وهي تجاور دولاً أكبر منها وأكثر قوة، وأحياناً ما تتوتر العلاقات بينها وبين تلك الدول الأقوى؛ ومع ذلك، لم يحدث أن تم تهديد أمن أي منها، أو إسقاط الحكم فيها.

فما الذي تفعله تلك الدول، للدفاع عن نفسها في ظل تباينات القوى الشاسعة في غير مصلحتها، وبصيغة أخرى: ما الذي يمكن أن تفعله الدول التي قصدها ترامب بتصريحه لكي تقلل من انكشافها، واعتمادها الأمني على واشنطن، وتُصلّب وسائل ممانعة واحتراز، تحسن موقعها الإقليمي والدولي؟

ثمة ثلاث وسائل ناجعة، استطاعت من خلالها دول مثل كوبا، وكندا، وبلجيكا، أن تقاوم هذا التباين الحاد في موازين القوى بينها وبين جيرانها، وبينها وبين قوى عالمية طامحة للنفوذ والهيمنة، وأن تبقى في مأمن من الاستهداف، من دون أن تكون مضطرة إلى دفع مقابل حماية.

الديمقراطية وحقوق الإنسان

من خلال اعتماد نظم ديمقراطية، تزيد القوة الشاملة للدولة؛ لأن تلك القوة ببساطة لا تتعلق بالقدرات الصلبة؛ مثل السلاح والاقتصاد والأبعاد الديمغرافية فقط، ولكنها تمتد بكل تأكيد لتشمل الصورة الذهنية، والاحترام والاعتبار الدوليين، وهو أمر يتعلق مباشرة بالقدرة على الوفاء بالمعايير الدولية للحكم الرشيد، والحريات، وحقوق الإنسان، ودرجة المشاركة في صنع السياسات العامة، وهو الأمر الذي يتوافر بوضوح لدى دول مثل كندا والدنمارك والنرويج وفنلندا وغيرها.

التحالفات العسكرية

لم يكن أمام أوروبا، ومن ورائها الولايات المتحدة أن تحد من طموحات ألمانيا للهيمنة على القارة العجوز، في مطلع القرن العشرين، إلا من خلال تحالف عسكري، وهو التحالف الذي قاد إلى الحرب العالمية الأولى. وقد تكرر الأمر ذاته مرة أخرى عشية الحرب العالمية الثانية، حيث لم يكن بمقدور دولة واحدة بمفردها أن توقف زحف هتلر، بعدما احتل النمسا وبولندا وفرنسا وغيرها من دول القارة.

فالتحالفات تنشأ عادة لمعالجة خلل في توازن القوى، وهي قادرة تماماً على تغيير وقائع المعارك، وبالتالي فهي قادرة تماماً على تغيير التاريخ.

ويرى بعض الباحثين أن التحالف ليس سوى "التزام مشروط ذي طابع سياسي أو عسكري، بين دولتين أو مجموعة من الدول، تتعهد خلاله باتخاذ تدابير تعاونية في مواجهة دولة أو مجموعة من الدول".

يفسر هذا الشرح ما اتفق عليه الباحثون الاستراتيجيون من كون التحالفات العسكرية ليست مبدأ من مبادئ العلاقات الدولية بقدر ما هي وسيلة من وسائل الملاءمة، وهو الأمر الذي احتاجته دولة مثل كوبا، لكي تبقى في مأمن من اجتياح أميركي لأراضيها، في فترة اشتعال الصراع مع واشنطن.

القوة العسكرية المشتركة

دول مثل بولندا أو التشيك أو لاتفيا، لم يكن بوسعها أن تحصن أمنها القومي من دون الانخراط في حلف مثل "الناتو"، الذي ينص نظامه الأساسي على أن "الهجوم على أي دولة عضو يعتبر هجوماً على جميع الدول الأعضاء".

ليست هذه بالطبع دعوة إلى الدول الشرق أوسطية، التي يمكن أن يكون ترامب قصدها في تصريحه المثير للجدل، لكي تنضم إلى "الناتو"، لكنها دعوة إلى أن تسعى هذه الدول إلى تكوين "قوة عسكرية عربية مشتركة"، تعمل على أسس حقيقية وواقعية.

أفضل ما يمكن أن نفعله حيال تصريح ترامب ليس الشجب والانتقاد بكل تأكيد، وإنما محاولة تفريغه من مضمونه، عبر سياسات قد تكون صعبة، لكنها ضرورية.

* كاتب مصري