"مع تصاعد خطر نشوب حرب تجارية بين الولايات المتحدة والصين، أصبح إنشاء نظام نقدي محايد على المستوى الجيوسياسي أمرا متزايد الإلحاح، والواقع أن التحول من نظام عالمي أحادي القطبية إلى آخر متعدد الأقطاب لم يكن منظما بشكل خاص، بل إن هذا التحول أنتج نوعا من الفوضى النقدية التي تعتمد على نموذج قائم على الدولار مدفوع بالاستدانة ويتسم بالإفراط في مجاراة التقلبات الدورية، والهشاشة، وربما التحيز إلى الحد الذي يجعله عاجزا عن دعم إدارة أي نزاع تجاري.

في جذر المشكلة تكمن اختلالات التوازن البنيوية واختلالات الحساب الجاري التي تنشأ عما يسمى معضلة تريفين: ففي سبيل تلبية الطلب العالمي على الدولار الأميركي كعملة احتياطية، يتعين على الولايات المتحدة أن تدير عجزا متواصلا في الحساب الجاري مع بقية العالَم، وفي العام الماضي بلغ هذا العجز 474 مليار دولار، أو 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي.

Ad

من المؤكد أن ضمان قدرة الولايات المتحدة، بوصفها الجهة المصدرة للعملة الاحتياطية الدولية المهيمنة، على الحصول على تمويل منخفض التكلفة لعجزها المالي ودينها الوطني يرقى إلى ما أطلق عليه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان وصف "امتياز أميركا الباهظ"، لكن هذا الامتياز من الممكن أن يؤدي إلى تآكل الانضباط المالي في أميركا، كما حدث بالفعل في السنوات الأخيرة، والذي أسفر عن عجز فدرالي مرتفع (833 مليار دولار، أو 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي، في عام 2018) فضلا عن دين فدرالي متزايد (21 تريليون دولار، أو 104% من الناتج المحلي الإجمالي، اعتبارا من شهر مارس).

وتؤدي السياسات المفضلة لدى إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى تفاقم هذا الاتجاه، فمؤخرا قادت التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق العسكري صندوق النقد الدولي إلى تقدير مفاده أن وضع الاستثمار الدولي الأميركي سيتدهور في السنوات المقبلة، مع بلوغ صافي الخصوم نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2022.

علاوة على ذلك، تعمل تهديدات ترامب بشن حروب تجارية وحروب عملة على تغذية المخاوف من تحول الدولار الأميركي إلى سلاح في صراعات جيوسياسية، ومثل هذه الخطوة كفيلة بإشعال شرارة تقلبات هائلة في مختلف أركان النظام النقدي الدولي، وإلقاء اقتصادات عديدة- كتلك التي تربط عملاتها بالدولار الأميركي أو تحتفظ بكميات كبيرة من الاحتياطيات بالدولار- في أزمة طاحنة.

بطبيعة الحال يمكننا تجنب معضلة تريفين، والحد من التأثير الأميركي الضخم على النظام النقدي، وكل المطلوب هو عملة احتياطية رئيسة لا تصدرها سلطة وطنية، كان المفترض ذات يوم أن الذهب يضطلع بهذا الدور، لكنه لم يتمكن من تلبية الطلب على السيولة العالمية أو العمل كمخزن للقيمة.

يتلخص الخيار الأفضل في حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي، والتي يؤكد التعديل الثاني لبنود اتفاق الصندوق أنها ينبغي أن تصبح "الأصل الاحتياطي الأساسي" في العالَم، ومنذ ذلك الحين، دعا بعض المراقبين- بمن في ذلك محافظ بنك الشعب الصيني السابق تشو شياو تشوان ووزير المالية الكولومبي السابق خوسيه أنطونيو أوكامبو- إلى متابعة تنفيذ هذه الخطة.

ومع ذلك، لا تستخدم حقوق السحب الخاصة على نطاق واسع بما يكفي للعمل كعملة احتياطية دولية رئيسة، ووفقا لتقرير مبادرة القصر الملكي، فإن الوسيلة الرئيسة لرفع مكانة حقوق السحب الخاصة العالمية تتمثل في "التخصيص المنتظم لحقوق السحب الخاصة في ظل الضمانات المناسبة" أو حتى التخصيص "في ظروف استثنائية". كما يدعو التقرير صندوق النقد الدولي إلى العمل مع القطاع الخاص "لاستكشاف السبل لتمكين استخدام حقوق السحب الخاصة على نطاق أوسع في المعاملات الخاصة".

كانت العقبة الرئيسة التي تحول دوما دون التوسع في استخدام حقوق السحب الخاصة هي المصالح والأولويات الجيوسياسية للبنوك المركزية المصدرة للعملات الاحتياطية (ليس الولايات المتحدة فحسب، بل أيضا منطقة اليورو، والصين، واليابان، والمملكة المتحدة). لكن قدوم العملات الرقمية المشفرة ربما يوفر وسيلة أخرى: فمن الممكن أن يعمل القطاع الخاص مباشرة مع البنوك المركزية لخلق حقوق سحب خاصة رقمية لاستخدامها كوحدة للحساب ومخزن للقيمة.

وقد تمثل حقوق السحب الخاصة الإلكترونية هذه الأصل الاحتياطي الأكثر أهمية، لأنها ستكون مدعومة بشكل كامل بعملات احتياطية، بالنسبة التي يحددها صندوق النقد الدولي، على أن يكون المعروض من حقوق السحب الخاصة الإلكترونية معتمدا بشكل كامل على الطلب في السوق.

بطبيعة الحال لتمكين التحول التدريجي من الدولار الأميركي إلى حقوق السحب الخاصة كعملة احتياطية دولية مهيمنة، لابد من خلق سوق نقدية كبيرة تهيمن عليها حقوق السحب الخاصة بالقدر الكافي، ولتحقيق هذه الغاية لابد من إنشاء هيئة محايدة سياسية، يملكها القطاع الخاص أو البنوك المركزية، لإصدار هذا الأصل. وبهذا يصبح لزاما على البنوك المركزية المشاركة ومديري الأصول مبادلة ممتلكاتهم من العملات الاحتياطية في مقابل حقوق السحب الخاصة الإلكترونية.

وبمجرد أن ينظر القطاع الخاص إلى حقوق السحب الخاصة الإلكترونية باعتبارها وحدة حسابية أقل تقلبا من العملات الفردية، قد يبدأ مديرو الأصول، والتجار، والمستثمرون تسعير سلعهم وخدماتهم الخاصة، وتقييم أصولهم وخصومهم وفقا لذلك، على سبيل المثال ربما يمكن تنفيذ مبادرة الحزام والطريقة الهائلة التي أطلقتها الحكومة الصينية باستخدام حقوق السحب الخاصة الإلكترونية. وفي الأمد الأبعد من الممكن أن يتولى أحد المراكز المالية الدولية، مثل لندن أو هونغ كونغ قيادة التجارب على حقوق السحب الخاصة الإلكترونية باستخدام تكنولوجيا سلسلة الكتل، مع إنشاء مرافق مبادلة خاصة لجعل هذا الأصل أكثر سيولة.

تتلخص ضرورة حتمية أخرى في إنشاء سوق للديون المقومة بحقوق السحب الخاصة الإلكترونية، والتي من شأنها أن تجذب الدول الراغبة في تجنب الوقوع في مرمى النيران بين الدول المصدرة للعملات الاحتياطية، وينبغي للشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية الإقليمية والدولية أن تعمل على توفير المدد اللازم من الأصول، وعلى جانب الطلب، يمكن استخدام الديون المصرفية الطويلة الأجل المقومة بحقوق السحب الخاصة الإلكترونية من قِبَل صناديق التقاعد، وشركات التأمين، وصناديق الثروة السيادية.

وقد تكون سوق الديون المقومة بحقوق السحب الخاصة الإلكترونية مفيدة أيضا لكل العملات الاحتياطية- باستثناء الدولار- لأن ثِقَلَها في تحديد قيمة الأصول تتجاوز حصصها الحالية في أسواق صرف النقد الأجنبي، وفي الأمد الأبعد، قد يؤدي صعود حقوق السحب الخاصة الإلكترونية إلى زيادة الضغوط على الولايات المتحدة لحملها على كبح جِماح إنفاقها.

لقد خلق صعود العملات الرقمية المشفرة فرصة فريدة لقوى السوق تسمح لها بتقدم طريق التحول نحو أصل احتياطي محايد حقا، وبعد أن أصبح التنبؤ بسلوكيات القيادات الأميركية أشد صعوبة من أي وقت مضى، فإن الفرصة سانحة الآن ولا يجوز لنا أن نهدرها أبدا.

* أندرو شنغ زميل متميز لدى معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام، وشياو غنغ رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ في جامعة هونغ كونغ.

"بروجيكت سنديكيت، 2018" بالاتفاق مع "الجريدة"