اليمين المتوحش والدول العربية
ما لم تبدأ الأنظمة العربية بإصلاح الداخل والتحول إلى أنظمة مدنية-ديمقراطية والتصالح مع شعوبها واحترام إرادتها وحفظ كرامتها، ثم تشكيل إطار سياسي إقليمي يقوم على أساس المصالح الاقتصادية المشتركة وحسن الجوار، بحيث تصبح هناك قوة سياسية-اقتصادية يحسب لها حساب ضمن موازين القوى في المنطقة، فإن دولنا ستظل ضعيفة ومشتتة.
قرارات الإدارة الأميركية ومواقفها لا يتخذها الرئيس دونالد ترامب بمفرده أو حسب مزاجه في لحظة ما، كما تُروّج بعض وسائل الإعلام العربية التي تعكس طريقة اتخاذ القرار في محيطنا البائس، فصلاحيات الرئيس الأميركي مُحددة ومُقيّدة بحسب الدستور، أما قراراته ومواقفه وتصريحاته أمام شاشات الفضائيات وفي المؤتمرات الصحافية فتنطلق من خطط استراتيجية وسياسات طويلة المدى تكون محصلة عمل مؤسسي ضخم تقوم به شبكة مؤسسات رسمية وغير رسمية تُمثّل في نهاية المطاف مصالح القوى الرأسمالية الاحتكارية المعولمة التي تتعامل مع دول العالم بحسب موقعها في التقسيم الرأسمالي الدولي للعمل، ودور كل منها في خدمة مصالح شركاتها العملاقة متعددة الجنسية ومصانع أسلحتها الكبرى. والحقيقة المُرة التي لا مفر من الاعتراف بها ومواجهتها هي أن دولنا العربية تُمثّل أطرافاً ضعيفة تابعة اقتصادياً وسياسياً للمراكز الرأسمالية المعولمة التي تعتبرها مجرد مصادر للطاقة والتمويل والنفوذ والسيطرة الغربية، ولذلك فإن ما أعلنه الرئيس ترامب بكل غطرسة وغرور وتعالٍ خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في واشنطن (كان ماكرون يهز رأسه دليل موافقته)، ليس مستغرباً، فهو بعض مما يقال في الغرف المغلقة، ولكن ترامب اختار أن يُعلِن ذلك على الملأ بكل بجاحة تعكس طبيعة اليمين العنصري المتوحش، وذلك عندما قال "لقد قضينا على داعش، لا يوجد جيش مثل الجيش الذي لدينا، أنفقنا 7 تريليونات هداراً في الشرق الأوسط، والآن طلبت من بعض أغنى الدول في العالم، وقلت لهم: عذراً، ولكن يجب أن تدفعوا مقابل ذلك، نحن متعبون ولا نريد أن ندفع ... سوف نعود إلى بلادنا وسوف نترك الناس هناك وسنجعلهم يدفعون، سوف يدفعون، لديهم أموال كثيرة لا يعرفون ماذا يفعلون بها، إنهم يتمرغون في الأموال".
ومن الواضح أن كلام ترامب يخص الدول الخليجية دون غيرها من الدول العربية، فالثروة المقصودة هي ثروة دولنا النفطية الغنية التي تستنزفها مصانع الأسلحة الأميركية والأوروبية وشركاتها المالية العملاقة، وتهديد الوجود الذي أشار إليه ترامب عندما قال "بعض الدول في الشرق الأوسط لن تصمد أسبوعاً من دون الحماية الأميركية"، هو التهديد الإيراني الذي من المفترض مواجهته بالطرق السياسية والدبلوماسية من خلال التركيز على المصالح الاقتصادية المشتركة، والتعايش السلمي وضرورة استتباب الأمن الإقليمي لمصلحة دولنا وشعوبنا، خصوصاً أنه من المستحيل تغيير الجغرافيا والتاريخ، ولكن الإدارة الأميركية الحالية تستخدم البعد الطائفي والاستفزازات الإيرانية لدول المنطقة وسيلة لابتزازها واستنزاف مواردها وخيراتها، ويبدو أنها، أي أميركا، تعدّ العدّة هذه الأيام لحرب جديدة في المنطقة طرفاها الرئيسان هما إيران وإسرائيل، مما سيزيد من تدمير المنطقة ويعاظم معاناة شعوبنا.وما لم تبدأ الأنظمة العربية بإصلاح الداخل والتحول إلى لأنظمة مدنية-ديمقراطية والتصالح مع شعوبها واحترام إرادتها وحفظ كرامتها، ثم تشكيل إطار سياسي إقليمي يقوم على أساس المصالح الاقتصادية المشتركة وحسن الجوار لا العواطف القومية والنعرات الشوفينية، بحيث تصبح هناك قوة سياسية-اقتصادية إقليمية على غرار الاتحاد الأوروبي يحسب لها حساب ضمن موازين القوى في المنطقة، فإن دولنا ستظل ضعيفة ومشتتة وتابعة لمراكز الرأسمالية العالمية، وبالتالي من السهولة ابتزازها وتهديدها وشفط ثرواتها.