يتمتع قلة من القادة الدوليين بالقدرة على إثارة إعجاب الناس مثل إيمانويل ماكرون، فقد وقف أعضاء الكونغرس الأميركي مصفقين له، وقبل أسبوع حظي الرئيس الفرنسي بالمعاملة ذاتها من البرلمان الأوروبي، وسينطلق ماكرون بعد أيام إلى أستراليا.أدت رحلته إلى الولايات المتحدة إلى عناوين أخبار مليئة بالمديح، فذكر مقال في صحيفة "واشنطن بوست"، مثلاً، أن "مصير التحالف الغربي يكمن بين يدي ماكرون" واعتبرت "بوليتيكو" أن ماكرون صار اليوم "القائد الجديد للعالم الحر".
ولكن لكي تقود فإنك تحتاج إلى أتباع أو على الأقل حلفاء مقربين، لكن ماكرون ما زال يواجه صعوبات في هذا المجال حتى اليوم، وله معجبون في الكثير من العواصم الغربية، لكننا لا نملك أي دليل حتى اليوم على أنه قادر على تشكيل الائتلافات الدولية بغية تبديل اتجاه الشؤون العالمية.يُعتبر هذا مهماً لأن ثمة حدوداً لما يستطيع قائد قوة أوروبية متوسطة الحجم تحقيقه بمفرده، فيواجه ماكرون، رغم كل سحره، صعوبة في إقناع الآخرين باتباعه، وبعد رحيله من واشنطن وصف ترامب نظيره الفرنسي بـ"الرجل المميز". ولكن ما الدليل على أن ماكرون تمكن من تبديل رأي ترامب في أي مسألة مهمة.لم تتبدل مواضع الاختلاف البارزة بين القائدين من إيران وتغير المناخ إلى الحمائية، ولا عجب في ذلك بما أن ماكرون وترامب، كما أوضح الرئيس الفرنسي في خطابه في واشنطن، يقعان على طرفي نقيض في الطيف العقائدي.تشكّل أوروبا الحلبة الطبيعية الأكثر ملاءمة للرئيس الفرنسي لبناء التحالفات، ولكن حتى في أوروبا يبدو ماكرون معزولاً على نحو غريب، فراهن كثيراً على إقناع ألمانيا باتخاذ القفزة التالية نحو "اتحاد أكثر تقارباً"، وخصوصاً الموافقة على وزير مالية وموازنة لمنطقة اليورو، ولكن تبين أن الدفء الواضح تجاه ماكرون في الأوساط الرسمية في برلين لم يكن كافياً لدفع ألمانيا نحوه، فما زالت الشكوك، بأن خطة ماكرون ما هي إلا طريقة واهمة لحمل دافعي الضرائب الألمان على تمويل الدولة الفرنسية المجهدة، قوية ومعرقِلة.ومن دون الدعم الألماني القوي لا يملك ماكرون بدائل واضحة كثيرة، فقد ولّد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي شرخاً طبيعياً مع المملكة المتحدة تفاقم بسبب شكوك بريطانيا بأن فرنسا تدفع المفوضية الأوروبية إلى تبني خط متشدد جداً في المفاوضات.أعرب البريطانيون عن امتنان كبير للدعم الفرنسي الذي حظوا به خلال مواجهتهم الأخيرة مع روسيا، لكن اللحظات العفوية من التعاون الاستراتيجي بين فرنسا وبريطانيا على خلفية خروج هذه الأخيرة من الاتحاد الأوروبي لا تشكّل أساساً ليكون ماكرون "قائد" تحالف غربي جديد.لا تبدو احتمالات فرنسا الأخرى واعدة أيضاً، فيأبى ماكرون أن ينصّب نفسه قائد فصيل أوروبا الجنوبية مخافة أن يعزز هذا شكوكك ألمانيا حيال التراخي المالي الفرنسي، كذلك لا تشكّل إيطاليا، التي تخضع راهناً لسيطرة الشعبويين في حركة النجوم الخمسة والرابطة، شريكاً طبيعياً في مطلق الأحوال، وفي المقابل يصوغ الهولنديون "رابطة هانزية" جديدة غير رسمية لدول أوروبا الشمالية تنظر بريبة أكبر من ألمانيا إلى الإصلاحات التي اقترحها ماكرون لمنطقة اليورو.تبدو أوروبا الوسطى أكثر سوءاً، فقد قاد الرئيس الفرنسي حملة إدانة "الديمقراطية المستبدة" في إشارة واضحة إلى الحكومتين الحاليتين في هنغاريا وبولندا، ولا شك أن صراحته جريئة ومرحب بها، إلا أنه لا يفوز بالكثير من الأصدقاء في مستشاريات أوروبا الوسطى.علاوة على ذلك يشير واقع أن ماكرون يقود حزباً جديداً "الجمهورية إلى الأمام"، إلى أن مؤيديه لا يشكّلون جزءاً من بنى قوى قائمة في البرلمان الأوروبي، ويتحول هذا إلى مشكلة عند صوغ التشريعات وتوزيع الوظائف الرفيعة الشأن.ويكمن الخطر الذي يواجهه ماكرون في أنه قد يكون قائداً يغرّد خارج السرب، وفي الداخل يُعتبر الرئيس الفرنسي مصلحاً اقتصادياً ليبرالياً في مرحلة ما عادت "الليبرالية الجديدة" تلقى فيها أي رواج، كذلك يبدو مؤيداً للوحدة الأوروبية في زمن بدأت فيه معارضة هذه الوحدة تنمو في مختلف أرجاء الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن ذلك، يُصنَّف ماكرون عالمياً ودولياً في حقبة تحقق فيها الحمائية والقومية تقدماً ملحوظاً.لا شك أن كل هذه المواقف تستحق تقديراً كبيراً، لكن ماكرون يسبح على الأرجح عكس تيار التاريخ بدل أن يركب الموجة.* «فاينانشال تايمز»
مقالات
عزلة إيمانويل ماكرون الغريبة
03-05-2018