في سنة 1946 كتب جورج أورويل يقول «يهدف الخطاب السياسي إلى حد كبير إلى الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه». وجادل في إمكان الدفاع عن الاستعمار البريطاني وإلقاء أميركا للقنبلة الذرية على اليابان، مشيراً إلى أن ذلك يمكن أن يتم من خلال مجادلات قاسية يصعب على معظم الناس مواجهتها، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن الدفاع عما لا يمكن الدفاع عنه؟ قد يتم ذلك عن طريق «التعبير اللطيف عن شيء بغيض والغموض المجرد» وإخفاء الحقيقة.

لماذا يجازف آلاف الفلسطينيين بحياتهم في التوجه نحو القناصة الإسرائيليين الذين يحرسون السياج الذي يحيط بقطاع غزة؟ لأن غزة أصبحت غير صالحة للسكن والعيش، كما أن الأمم المتحدة تقول إن غزة لن تصلح للحياة بحلول سنة 2020 وربما قبل ذلك.

Ad

وتتحمل حركة حماس بعض اللوم لأن هجماتها المستمرة منذ عقود من الزمن ضاعفت من تردي الأوضاع في قطاع غزة، ولكن اللاعب الأكبر هناك هو إسرائيل وسياساتها في حرمان سكان القطاع من الماء والكهرباء والتعليم والطعام الذي يحتاج السكان إليه للعيش بصورة لائقة.

والسؤال هو: كيف يستطيع يهود أميركا الدفاع عن مثل تلك الأوضاع؟ وكيف يوافقون على خنق مليوني إنسان؟ إنهم يفعلون ذلك لأن القادة اليهود في إسرائيل والولايات المتحدة يقرون تصرفات إسرائيل بطرق تحتوي على ضباب التعبير اللطيف عن شيء بغيض إضافة إلى الأكاذيب، ويشتمل هذا الضباب في المقام الأول على ثلاث كلمات هي «الانسحاب» و»الأمن» و»حماس»، والتي يبدو أنها تعمل على تبرئة إسرائيل من مسؤولية أفعالها المروعة.

ولنبدأ بكلمة «الانسحاب»، فقد عمد سفير إسرائيل الى الأمم المتحدة داني دانون في وقت سابق من شهر أبريل الماضي إلى الدفاع عن قيام إسرائيل بإطلاق النار على المحتجين العزل بالقول «لقد انسحبنا بصورة تامة من قطاع غزة في شهر أغسطس من سنة 2005 ونحن لسنا مسؤولين عن رفاهية سكان غزة»، وهكذا فإن توجه الفلسطينيين نحو سياج غزة مع إسرائيل يماثل قيام المكسيكيين بعبور ريو غراند، ويصر مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية على أنه «ما من دولة تستطيع تحمل هذا التهديد لسيادتها».

وهذا خيال مخدر، صحيح أن إسرائيل سحبت مستوطنيها وجنودها من قطاع غزة في 2005 لكنها لا تزال تسيطر على القطاع وبطريقة تشبه سيطرة السجان على باحة سجن من دون أن يدخلها على الإطلاق.

وبداية أعلنت إسرائيل أجزاء من غزة منطقة محظورة على السكان هناك، وهي تقيم مناطق عازلة من أجل إبعاد الفلسطينيين عن السياج الذي يفصل بين غزة وإسرائيل، وأطلقت النار على كل من دخل تلك المناطق خلال السنوات الماضية.

عوائق المياه والصيد

وإضافة إلى حرمان الفلسطينيين من معظم أفضل الأراضي في غزة فهي تمنعهم من الحصول على الكثير من مياه القطاع، وقد قيدت بصورة عامة الصيد في مساحات تمتد بين ثلاثة وستة أميال بحرية، وتسيطر إسرائيل أيضاً على معظم الأراضي القريبة من قطاع غزة.

وأخيراً، ولعله الجانب الأكثر أهمية أن إسرائيل تسيطر على السجلات المدنية لسكان غزة، وعندما تولد طفلة يقوم أبواها بتسجيل ولادتها عن طريق السلطة الفلسطينية مع الجيش الإسرائيلي، وإذا لم تسجلها إسرائيل في نظام الحاسوب فإن إسرائيل لن تعترف بهويتها الفلسطينية، ومن منظور إسرائيلي فإن تلك الطفلة غير موجودة من الوجهة القانونية.

وبهذه الطرق المرعبة وغيرها تكبح إسرائيل بشكل فعلي حياة كل شخص في غزة، وكما لاحظت مجموعة حقوق الإنسان الإسرائيلية «غيشا» فإن «سكان غزة لا يستطيعون إحضار الحليب إلى القطاع من دون إذن السلطات الإسرائيلية، وجامعة غزة لا تستطيع استقبال زوار أجانب من دون إصدار إسرائيل إذن دخول لهم، ولا تستطيع الأم الفلسطينية تسجيل طفلتها في السجل المدني الفلسطيني من دون موافقة السلطات الإسرائيلية، كما لا يستطيع صياد فلسطيني الصيد قبالة ساحل غزة من دون إذن إسرائيلي، ولا تستطيع جمعية خيرية في غزة الحصول على هبات من البضائع المعفاة من الضرائب من دون موافقة إسرائيل، وتنسحب هذه الشروط على شتى جوانب الحياة اليومية في غزة، وهذا يعني أن انسحاب إسرائيل من غزة في سنة 2005 هو مجرد كذبة.

خلق النمو السكاني السريع في غزة حاجة ملحة إلى توفير بنية تحتية وخدمات، ولكن المناطق العازلة الإسرائيلية والحصار الجزئي جعلا من المستحيل إعادة بناء القطاع، وقد أفضى ذلك الانهيار الاقتصادي إلى عواقب شديدة الأثر على السكان هناك.

وفي وسع المراقب أن يجادل في أن القيود الإسرائيلية على المناطق العازلة والصيد البحري تخدم الأمن الإسرائيلي لأن إبعاد الفلسطينيين عن السياج يحول دون وصول صواريخهم إلى إسرائيل.

ويتمثل السر القبيح المتعلق بحصار إسرائيل للقطاع في أن عناصره مدفوعة بقدر أقل بمنطق الأمن وبقدر أكبر بالمصالح الاقتصادية الشخصية، وفي عام 2009 كشفت صحيفة «هآرتز» الإسرائيلية الطريقة التي اتبعتها إسرائيل للضغط من أجل تخفيف القيود المفروضة على الاستيراد إلى غزة عندما أراد المزارعون الإسرائيليون بيع فائض إنتاجهم، وفي سنة 2011 تعرضت إسرائيل الى نقص في المنتجات الزراعية فقررت رفع صادرات غزة من تلك المواد. هل تغيرت الأخطار الأمنية فجأة؟ طبعاً لا، وما تغير هو حاجة إسرائيل الى مستهلكين.

وعند التفكير في الأمر يصبح الوضع غير مفاجئ، وتتعرض تل أبيب الى مساءلة أمام مواطنيها وليس إزاء سكان غزة، والسؤال هو: لماذا تحافظ إسرائيل على حصار غزة بطريقة ليست قاسية فقط بل غريبة أيضاً؟ الجواب هو لأنها تستطيع القيام بذلك.

وينقلنا هذا الى موجة الاحتجاجات الراهنة التي تشهدها الساحة الفلسطينية، ويصر المدافعون عن إسرائيل في الولايات المتحدة على أن إسرائيل لا تستطيع ترك الآلاف من المتظاهرين يمزقون السياج والتدفق نحو الكيبوتزات والمدن فيها، وذلك صحيح لكنه يتجاهل أكبر نقطة: ما من حكومة تستطيع قمع احتجاجات جماهيرية واسعة. والسؤال الأكثر أهمية هو: ماذا فعلت إسرائيل من أجل معالجة مظالم الفلسطينيين التي أطلقت الاحتجاجات في المقام الأول؟ وطوال أكثر من عقد من الزمن كانت العقوبة الجماعية من جانب إسرائيل الإجابة عن المشكلة التي تعانيها غزة.

البدائل

البديل هو استراتيجية تقوم ليس على عقوبة جماعية بل على الأمل وتمكين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية من إجراء انتخابات حرة ونزيهة لأول مرة خلال أكثر من 12 سنة، واحتضان مبادرة السلام العربية ومقترحات كلينتون: قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدود عام 1967، وكان ذلك يعني إنهاء انتشار المستوطنات وربما دفع مبالغ إلى مستوطنين من أجل العودة الى داخل الخط الأخضر لإحياء الأمل في حل الدولتين.

وهو يعني بالضرورة أيضاً أن يتحدث القادة اليهود من أميركيين وإسرائيليين بصورة صادقة عن سبب وجود 70 في المئة من سكان غزة على شكل لاجئين، وقد شعر يهود إسرائيل وأميركا بخوف لأن مسيرات الاحتجاج في غزة رفعت شعارات «مسيرة العودة الكبرى»، لكن اليهود يمكنهم أن يفهموا سبب توق الفلسطينيين الى العودة إلى الأرض التي طردوا منها قبل سبعين عاماً فقط.

* بيتر بينارت – فوروورد