تمثل الانتخابات البلدية الأولى في تونس التي تُجرى غداً منعطفا مهما في مجال تفعيل المؤسسات الديمقراطية، وتوفير مزيد من الفرص للشعب التونسي لاتخاذ قرارات حاسمة حول حياته، وهما هدفان يتعارضان مع رؤية الجماعات السلفية الجهادية في المنطقة ومصالحها وايديولوجيتها. وقد أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» صراحة أمله في تعطيل عملية التصويت، مع تركيز دعايته الرسمية على تونس للمرة الأولى منذ صيف 2016.على مدى العامين الماضيين كان نشاط الجماعة في تونس مقيدا إلى حد كبير، إلا أن الهجمات استمرت داخل محافظة القصرين بشكل غير ظاهر. وتمثل الانتخابات رهانا كبيرا لتشجيع المقيمين في هذه المنطقة المنسية وتمكينهم، لذا من الحكمة أن تركز الحكومة التونسية على ضمان أمن العاصمة والمناطق الساحلية، فضلا عن مواقع الاقتراع في المناطق الداخلية. ولهذه الجهود أن تزيد من شرعية العملية الديمقراطية، وتظهر للسكان المحليين المشككين أن السلطات المركزية تتواصل معهم وإن ببطء ولكن بدأب حول شؤون الحكم والقضايا الأخرى.
ويعتبر الجهاديون السلفيون الديمقراطية دينا يتعارض فيه البشر مع سيادة الله فيحاولون سن قوانينهم الخاصة ووضع أنفسهم خلفاء لله. وتستند حملة تنظيم «الدولة الإسلامية» المناهضة للديمقراطية وللأحزاب الإسلامية المشاركة فيها على هذه الأيديولوجية في تونس. وقد استهدف مقال ورد في العدد 123 من صحيفة «النبأ» الأسبوعية الصادرة في منتصف مارس، ضمنيا حزب «حركة النهضة» الإسلامي الذي يتصدر الأحزاب الإسلامية الأخرى في البلاد. ومن دون ذكر أي أسماء، دحض تنظيم «الدولة الإسلامية» الحجة القائلة بأن «الديمقراطية هي أفضل طريقة لإحلال الدين»، في إشارة إلى التفسير الذي اعتمدته حركة «النهضة» وغيرها من الجماعات الإسلامية لتبرير مشاركتها في الانتخابات.كما جادل المقال بأن العملية الديمقراطية لا تؤدي إلا إلى «ادعاءات باطلة»، بتلميحه إلى حقيقة أنه عندما كانت حركة «النهضة» الحزب الرئيس في الحكومة التونسية بين 2011 و2014، لم تراع مطالب إسلامية رئيسة مثل استخدام الشريعة كمصدر قانون في الدستور، وإعطاء المرأة وضعا قانونيا مختلفا عن الرجل، وفرض عقوبات على التجديف. ومع ذلك، لم تفشل الحركة في تطبيق الإجراءات هذه بسبب عدم محاولتها ذلك، بل نتيجة حصولها على أكثرية الأصوات في المجلس التشريعي وليس الأغلبية. والأهم من ذلك، تم رفض مثل هذه المقترحات لأن الجماعة السلفية الجهادية، تنظيم «أنصار الشريعة في تونس»، كانت في ذلك الوقت ترتكب أعمال عنف عام وتظهر قوتها، ما حفز الأحزاب اليسارية العلمانية على إعاقة العمل التشريعي خشية قيام حركة «النهضة» ببناء دولة إسلامية محافظة بصورة بطيئة.
تقويض شرعية الانتخابات
تتماشى أيضا انتقادات المقال للديمقراطية التونسية مع الدعاية الأخيرة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» وأعمال العنف التي يقوم بها والتي تهدف إلى تقويض شرعية الانتخابات في دول أخرى في المنطقة. وفي منتصف فبراير، في الفترة السابقة للانتخابات الرئاسية في مصر، نشر الفرع المصري لتنظيم «الدولة الإسلامية» «ولاية سيناء» شريط فيديو دان التصويت ودعا المسلمين «الحقيقيين» إلى تجنب التجمعات الكبيرة في يوم الانتخابات، وألمح إلى استهداف مراكز الاقتراع.وفي عددها رقم 128 الصادر في أبريل أعلنت صحيفة «النبأ» مسؤوليتها عن ثلاث هجمات على مقار الأحزاب وقادتها في محافظات الأنبار وديالى وكركوك العراقية، كجزء من حملة أوسع مناهضة لـ «الديمقراطية المشركة». وقد دعمت أعمال العنف هذه برسالة صوتية في 22 أبريل من قبل المتحدث باسم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو الحسن المهاجر دعا فيها إلى شن هجمات على أي شخص له علاقة بالانتخابات البرلمانية العراقية المقرر إجراؤها في 12 مايو.وفي اليوم نفسه الذي نشرت فيه رسالة المهاجر، أعلنت «ولاية خراسان» التابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» مسؤوليتها عن مهاجمة مركز تسجيل الانتخابات في كابول، بأفغانستان. وبعد يومين، نشر تنظيم «الدولة الإسلامية» أيضا مقطع فيديو عن فرع «ولاية الفرات» على الحدود العراقية السورية، عرض فيه جهود الحوكمة المستمرة للجماعة والمنافع المفترضة للسكان المحليين تحت حكمها مقارنة بنظام الديمقراطية كبديل «غير شرعي». وتمثل هذه الجهود مجتمعة تركيز المنظمة في الآونة الأخيرة على زعزعة ثقة المسلمين في الانتخابات.«التنظيم» والحالة التونسية
لا تطرح نية تنظيم «الدولة الإسلامية» السؤال الأكبر في السياق التونسي، بل قدرته الفعلية على اتخاذ إجراءات ضارة هناك. وفي أفغانستان والعراق، شن التنظيم هجمات بالإضافة إلى إصداره تهديدات، لكن تحذيراته في مصر لم تصل إلى حد القيام بأعمال عنف يوم الانتخابات. ما قد يحدث في تونس عامل يتغير بتغير الوضعية الحالية للتنظيم هناك وقدرة الدولة على منع الهجمات.بلغ عنف تنظيم «الدولة الإسلامية» في تونس ذروته بين بدايتي 2015 و2016، مع شن هجمات واسعة النطاق ضد «المتحف الوطني باردو»، و»شاطئ سوسة»، وأفراد «الحرس الرئاسي» التونسي، وعلى مواقع عسكرية وأمنية في بلدة بنقردان. ومنذ ذلك الحين، حصر نشاط تنظيم «الدولة الإسلامية» في المناطق الجبلية، في الداخل مثل جبل المغيلة. وبدلاً من شن هجمات واسعة النطاق على المدنيين أو محاولة الاستيلاء على الأراضي، يستهدف مقاتلو تنظيم «الدولة الإسلامية» حاليا قوات الأمن أو الرعاة الذين يرفضون منحهم المؤن. ويشير ذلك إلى أن شبكة الجماعة المؤلفة من النشطاء التونسيين المتمركزين في صبراتة في ليبيا، والذين ساعدوا في إعداد الهجمات التي وقعت في الفترة ما بين 2015 و2016 المذكورة أعلاه، ضعفت بشكل كبير. ويبدو أن تنظيم «الدولة الإسلامية» بات يعتمد اليوم على الشبكات المحلية في تونس التي لا تتمتع بهامش الحرية نفسه الذي تمتعت به في ليبيا.وعليه، إذا شن تنظيم «الدولة الإسلامية» هجمات في تونس في الأيام المقبلة، فقد يركز على المراكز الانتخابية أو الأحزاب السياسية في الداخل. وكان الجهاديون السلفيون حاولوا التسبب بمثل هذه الاضطرابات سابقا، إذ كان «أنصار الشريعة في تونس» متورطين في أعمال تحريض وشغب واستخدام للقوة خارج أطر القانون في الفترة السابقة للانتخابات التشريعية في أكتوبر2011. كذلك اعتدى هؤلاء على عدد من السياسيين في الداخل بين 2012 و2013. وكاد اغتيال الجماعة للزعيمين السياسيين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي أن يوقف عملية صياغة الدستور.واليوم يشكك كثير من المقيمين في الداخل في الحكومة المركزية والمناطق الساحلية بسبب تاريخ التهميش الطويل. لذا قد يسعى تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى مضاعفة هذا الشعور عبر زعزعة ثقتهم في العملية الانتخابية. في المقابل، تشكل عملية التصويت الناجحة، التي تتنازل عن سلطة أكبر لصالح قاعدة أوسع نطاقا من السلطات المحلية، إنجازا هاما في ترسيخ الديمقراطية في تونس، لذا على واشنطن أن تتناقش مع شركائها في تونس حول أفضل السبل لضمان أمن جميع مناطق البلاد، وليس القاعدة التقليدية على الساحل فحسب!* هارون زيلين