لكل مرحلة تاريخية ظروفها ومطالبها واصطفافاتها السياسية، والمرحلة الحالية تتطلب، كما ذكرنا مراراً، تشّكيل اصطفاف مدني ديمقراطي عريض يقدم للناس برنامجاً سياسياً واضحاً ومُحدداً، على أن يُطرح بخطاب جديد، فخطاب النصف الثاني من القرن المنقضي لم يعد صالحاً لإقناع الناس في العِقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مع الأخذ في عين الاعتبار أن تجديد الخطاب السياسي المدني لا يمكن أن يتحقق ما لم تقم التنظيمات المدنية بأشكالها ومنطلقاتها المختلفة بعملية مراجعة فكرية شاملة وجادة مع نقد ذاتي للمواقف والبرامج السياسية واعتراف بأخطاء الماضي، فالخطاب هو انعكاس لكل ذلك.هناك حاجة لخطاب مدني جديد يفهمه عامة الناس، ويدافعون عنه لأنه يتحدث بلسانهم ويلامس مشاعرهم، ويعكس همومهم وتطلعاتهم ويحقق مصالحهم، وهو عكس الخطاب المتعالي والعنجهي والجامد الذي تردده جماعات نخبوية وعنصرية؛ لهذا ينبغي تبسيط المفاهيم النظرية كي يفهمها الناس ويقتنعوا بها، والتعامل مع النظريات الاجتماعية باعتبارها فكراً إنسانياً يساعد في تفسير الواقع الذي يختلف باختلاف مرحلة التطور الاجتماعي-الاقتصادي لا باعتبارها نظريات مُقدّسة أو جامدة لا تُمس ولا يجوز انتقادها وتطويرها أو الاختلاف معها.
الفكر الإنساني متجدد بطبيعته، ومن الخطأ ترديد مصطلحات ومقولات ذكرها فلاسفة وعلماء عظماء عاشوا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أثناء اندثار مرحلة الإقطاع وبزوغ نجم النظام الرأسمالي كمرحلة متقدمة، آنذاك، في تاريخ البشرية، بعد إخراجها من سياقها التاريخي ثم اعتبارها صالحة لكل زمان ومكان، فذلك يستفز الناس ويجعلهم ينفرون من الخطاب المتعالي الذي لا يفهمونه لانفصاله عن واقعهم، والشيء ذاته ينطبق على عملية الانعزال عن الناس والحديث النظري عن الديمقراطية والمدنية والحريات والتنوير من دون الأخذ في الاعتبار ظروف الواقع ومتطلبات المرحلة. بكلمات أخرى فإنه من غير الممكن معرفة مشاكل الناس وهمومهم وتطلعاتهم، ثم التعبير عن ذلك في برامج التنظيمات المدنية ومواقفها ونوعية خطابها من دون معايشتهم عن قرب، والتحدث بلسانهم والوجود الفعلي بين صفوفهم.إن تجديد الخطاب المدني وتحسين مفرداته كي يفهمه الناس ويقتنعوا به غير ممكن ما لم ينطلق من أرض الواقع المعيش، ولهذا فإنه ينبغي تطوير أساليب العمل المدني الميداني، وذلك بالتركيز على العمل الشعبي ومساعدة الناس والتخفيف من قسوة ظروفهم المعيشية، أي الابتعاد عن الأنشطة النخبوية، فذلك يساعد في تقبل الناس البسطاء للطرح المدني الذي تعمل جماعات الإسلام السياسي باستمرار على تشويهه. وفي هذا السياق، لماذا يُترك العمل الإنساني الخيري لجماعات الإسلام السياسي بشقيها السنّي والشيعي مع أن الأولى أن تقوم به التنظيمات المدنية بحكم منطلقاتها النظرية وطبيعة فكرها الإنساني؟ ما الذي يمنع القوى المدنية الديمقراطية من إنشاء لجان خيرية في المناطق السكنية تتولى مساعدة المحتاجين والأسر المُتعففة، أو إنشاء مدارس ومعاهد وجامعات لا ربحية تقبل الأطفال المحتاجين، ومن ضمنهم أطفال "البدون" الذين يُحرمون بشكل تعسفي لا إنساني من التعليم سواء في المدارس الحكومية أو الخاصة؟
مقالات
عن تجديد الخطاب المدني وأسلوب العمل
09-05-2018