عاد ملف الأوفست إلى الأضواء مجدداً، بعدما قرر مجلس الوزراء تكليف هيئة تشجيع الاستثمار المباشر في شهر فبراير الماضي التنسيق مع وزارة المالية والأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية لإعداد قائمة جديدة بالمشاريع المقترح تنفيذها من جانب الملتزمين ببرنامج الأوفست، مع الأخذ في الاعتبار البعد الاقتصادي والتنموي والاجتماعي لكل مشروع، على أن تضع تقريرها بعد شهر من تاريخه، غير أن المجلس لم يناقش حتى اليوم، رغم مرور شهرين على الموعد، أي قائمة بهذا الشأن.و"الأوفست" يمكن تعريفه بأنه التزام يتعلق بالعمليات المالية المتقابلة يفرض على الكيانات الأجنبية التي توقع عقوداً مع الحكومة، ويتوجب عليها مقابل تلك العقود تنفيذ مشاريع وفقاً لبرنامج الأوفست على العقود العسكرية التي تعادل قيمتها 3 ملايين دينار فما فوق، والعقود المدنية التي تعادل 10 ملايين دينار فما فوق، وتحتسب قيمة التزام الأوفست على أساس نسبة تصل إلى 35 في المئة من القيمة النقدية للعقد... بمعنى أنه لو اشترت حكومة الكويت أسلحة بمليار دينار، مثلاً، فإن الجهة الأجنبية التي باعت هذه الأسلحة ملزمة بتنفيذ مشاريع تكنولوجية وتعليمية وطبية وإسكانية وبنى تحتية داخل البلاد وغيرها من الاحتياجات محل الاتفاق بقيمة تصل إلى 350 مليون دينار، وهو ما يتسق، حال تنفيذه، بصورة سليمة مع الخطاب الرسمي بخفض المصروفات وكفاءة الإنفاق الاستثماري في الميزانية، فضلاً عن توفير فرص العمل وجذب التكنولوجيا.
فشل «الوطنية للأوفست»
غير أن برنامج الأوفست تعرض لفشل كبير في الكويت، منذ أدى إلى تصفية الشركة المختصة، وهي الشركة الوطنية للأوفست عام 2016، بعد التعثر في 7 مشاريع ورصد أكثر من 50 مخالفة، وإحالة ملفاتها إلى النيابة، إذ لم تحقق منذ تأسيسها عام 1995 عوائد تذكر للمالية العامة، في مقابل الفرص الضائعة بمئات الملايين من الدنانير نظير توقيع عقود وترسيات والتزامات مدنية وأخرى عسكرية بمليارات الدنانير سنوياً، إذ تشير البيانات الرسمية، منذ تعثر هذه الشركة، إلى أن الكويت أنفقت خلال الأعوام الثلاثة الماضية حتى نهاية الربع الأول من العام الحالي على العقود المدنية فقط، دون احتساب العسكرية، أكثر من 19 مليار دينار، كان يمكن أن تصل عوائد الأوفست المحولة إلى مشاريع فيها إلى 6.7 مليارات، بما يوازي مصروفات عامين من بند الانفاق الاستثماري المقرر في الميزانية العامة للدولة.ضياع فرص
وأدى تعثر برنامج الأوفست إلى ضياع فرص متنوعة على أكثر من صعيد، منها عقد مطار الكويت الدولي الجديد الذي تبلغ قيمته نحو 1.3 مليار دينار، ومشاريع المدن الإسكانية التي تتجاوز قيمتها 3 مليارات، فضلاً عن العقود العسكرية التي تم اعتماد مبلغ 6 مليارات لتغطية نفقات وصفقات عسكرية مدة 10 سنوات، لترفع نسبة الإنفاق العسكري من الناتج المحلي الإجمالي من 3.3 في المئة إلى حدود 5 في المئة سنوياً، وهي قفزة كبيرة لإنفاق متضخم أصلاً، إذا علمنا أن المعدل العالمي للإنفاق العسكري نحو 2.3 في المئة من الناتج المحلي.خسارة مزدوجة
المفارقة أن الإنفاق العسكري يموّل من الاحتياطي العام، الذي تشير عدد من المؤسسات الدولية، وكذلك المحلية، إلى تسارع نضوبه، في حين لا تحقق الميزانية العامة أي استفادة مباشرة أو غير مباشرة من عوائد الصفقات العسكرية عبر برنامج الأوفست المتعثر والمجمد، بمعنى أن الخسارة هنا مزدوجة على الاحتياطي المستقبلي والميزانية الحاضرة، مما يبين انعدام الجدية في ضبط الإنفاق المالي، وضياع الأولوية لدى صانعي سياسات الإصلاح الاقتصادي، والأهم من ذلك كله تضييع فرصة إيجابية على الاقتصاد المحلي في تعظيم العوائد المالية وغير المالية من "الأوفست" كالاتفاقات النقدية، وخفض مصروفات المشاريع في الميزانية، وتشغيل الكوادر الوطنية، وجذب التكنولوجيا والخبرات والتدريب من شركات ومؤسسات دولية إلى داخل البلاد.«أوفست» خليجي
في المقابل، نجح عدد من دول الخليج، ولو بشكل نسبي، لاسيما السعودية والإمارات، في تحقيق قدر ما من الفائدة من برنامج الأوفست، إذ إن مشروع دولفين، الذي يمد الإمارات وعمان بالغاز القطري، هو في الأصل مشروع أوفست تساهم فيه حكومة أبوظبي بشراكة من توتال الفرنسية وأوكسيدينتال الأميركية، ويعد أضخم مشروع نقل غاز في المنطقة، إلى جانب مشاريع أخرى، منها تأسيس شركة أبوظبي لبناء السفن مع شركات فرنسية لتصميم زوارق وصواريخ السفن، وكذلك تأسيس مصنع لقطع غيار "طائرات الميراج" الفرنسية بعد صفقة بنحو 3.7 مليارات دولار لشراء نفس الطائرات.أما السعودية، فعمدت إلى إلزام الشركات الأجنبية باستثمار جزء من قيمة أي صفقة في المملكة، وتحديداً في قطاعات التكنولوجيا فأسست شركة الإلكترونيات المتقدمة لخدمة قطاعات محددة كالجيش والشرطة والمطارات والاتصالات وصيانة الطائرات.تشجيع الاستثمار
إحالة ملف الأوفست من الهيئة العامة للاستثمار إلى هيئة تشجيع الاستثمار المباشر تعني محاولة جديدة لإحياء ملف البرنامج، مما يتطلب الجدية والعمل على تحقيق أهداف اقتصادية متوسطة وبعيدة المدى، بحيث تكون العقود المدنية والعسكرية التي تبرمها الدولة ذات فائدة على الميزانية والمشاريع والشراكة والخبرات وفرص العمل والتكنولوجيا والتدريب في بلد قلما يستفيد الاقتصاد بشكل حقيقي من إنفاقه الرأسمالي.