هذا هو لبنان!
لا أسوأ ولا أكثر دماراً للمجتمعات والشعوب من أن تتحول الطوائف والمذاهب، بغض النظر عمن تكون هذه الطوائف والمذاهب، إلى أحزاب سياسية مغلقة على أتباعها، وهذا على غرار ما هو عليه في لبنان، الذي جرت فيه منذ أيام قليلة انتخابات نيابية (برلمانية) وصفت شكلاً بأنها "ديمقراطية"، لكنها في جوهرها كانت غير ذلك، إذ إنه كان على أتباع أي طائفة معينة ألا يختاروا إلا أبناء طائفتهم.لقد بقيت هذه الصيغة الانتخابية متواصلة في هذا البلد الجميل العظيم، الذي غزا بكفاءاته وثقافته وإبداعاته الكرة الأرضية كلها، وحقيقة إنه أمر محزن ألا يُسمح، في انتخابات توصف بأنها ديمقراطية، لابن إحدى الطوائف بأن يختار وينتخب ابن طائفة أخرى، وهذا كان يحصل سابقاً، وإن على نطاق ضيق، لكنه غدا ممنوعاً وبالقوة وبالتهديد بالموت، وذلك في حين أن بلد الأرز، مثله مثل دول الكرة الأرضية كلها، قطع نحو عقدين من الزمن على طريق الألفية الثالثة والقرن الحادي والعشرين.إن الجنوب، جنوب لبنان، الذي كان يفرد ذراعيه ترحيباً بكل مستجير من العرب، الذين أجبروا على مغادرة أوطانهم تحت القمع ومصادرة الحريات العامة، والذي استضاف المقاومة الفلسطينية بكل تبعات استضافتها، ما عاد بإمكان أي من أبنائه، وحتى أبناء العائلات العريقة، الخروج من دائرة ثنائية الحزبين الوحيدين حزب الله وحركة "أمل"، لا "ترشيحاً" ولا انتخاباً ولا بإظهار ولو مجرد النوايا الحسنة تجاه "الآخرين".
وبالطبع فإن هذا ينطبق على التشكيلات والقوى الطائفية الأخرى، وإن بحدود ضيقة، فالمسيحيون الموارنة لهم أحزابهم التي لا خيارات خارجها، وكذلك الدروز الموحدون، والأقلية "العلوية" في جبل محسن في طرابلس اللبنانية، وهنا يبقى أنه لابد من إيضاح أن "السنّة" هم الأكثر "انفلاشاً" في هذا البلد الذي وصفه الشاعر الكبير سعيد عقل بقوله: هالْكـم أرْزه المعـاجقيـن الكـَوْنأو قبل ما كانوا هَوْنْ مكانِشْ كَوْنفهم، أي السنّة، لم يكونوا بأكثريتهم على قلب زعيم واحد إلا في عهد رفيق الحريري رحمه الله.في كل حال، يُشهد للبنان أن له نكهة حضارية خاصة بطوائفه ومذاهبه وجباله وشواطئه و"روشته" وجامعته الأميركية وأهله الطيبين، ومن كل الأعراق والطوائف، وحملة الجنسية اللبنانية، والذين ما زالوا يوصفون بأنهم "بدون"، ويظهر أنهم سيبقون "بدون"، لأنهم إن لم يبقوا "بدون" فسيخلوا بالمعادلة الطائفية التي لا تزال مستمرة ومتواصلة منذ "الاستقلال" وقبله... ومنذ أن كان هناك كَون وكانت هناك "مغارة جعيتا" و"نبع مرشد" و"المختارة" وقلعة شقيف ونهر الليطاني ومدينة صور الجنوبية العظيمة و"بكركي"... والغرفة الفرنسية!