حروب كبيرة وأخرى صغيرة
يعيش الوطن العربي حروبا متعددة الأشكال والصور على أرضه وفي سمائه، من بعضها تتردد أصوات المدافع، وهذه هي الحروب الكبيرة، ومنها ما يقض المضاجع من صراخ الأبرياء، وأخرى حرب صامتة تغلي نارها في الصدور، وأخرى... وأخرى... وهي الصغيرة التي تخلفها الكبيرة؟ ورغم كل ما يشعر به الإنسان العربي من خوف مما تحمله الأيام التي اعتاد أن تفاجئه بما لا يتوقع، فإن الحياة تسير، حيث يرى البعض أن التاريخ البشري مليء بمثل هذه الحالات وأن الحروب قامت منذ بداية الخليقة، بدأت بنزاع صغير بين ولدي سيدنا آدم، ولم تهدأ منذ ذلك الوقت، ولكل حرب مبررات وحجج لا تنتهي إلا بانتصار أحد الطرفين على الآخر، أو بالصلح - الاستسلام- مع العلم أن كلا الطرفين خاسران!إمكانيات زماننا الحالي الشريرة متعددة ومتشعبة وفتاكة إن استخدمت ما لديها من أسلحة، فالضرب قائم بحديد ساخن ليس بتدمير الإنسان جسديا فقط، بل بأساليب ناعمة أيضا، أقلها وسائل الإعلام المفتوح على كل شيء، وهي متعددة الأوجه ومتلونة وكثير منها يصيب الهدف وإن احتاج إلى وقت أطول!
من الحروب الكبيرة أيضا، ما هو سافر وواضح في العلن، إلا أن الأخطر ما كان منها مستتراً ويعمل بصمت في الخفاء، يرسل على فترات بالونات اختبار لمشاريعه الكبرى، تنتج عنها حروب أخرى صغيرة في حدود ضيقة بين أفراد البلد الواحد حين تحقق بالونات الاختبار غايتها وتخترق عقول بعضهم أو ينقسمون عليها، ويقفون ضدها، وهذه ظاهرة مدمرة اتسعت دائرتها منذ فترة ليست قصيرة. الحالة المفزعة، وهذا الضجيج في كل مناحي الحياة خلقا حربا صغيرة في داخل كل فرد ينام بها ويصحو عليها ولا يكاد يجد وقتا ليبدع في أقل الأشياء، فهذه الحالة التي تتغلغل وتفتت الروح لا يمكن أن تخرج من رحمها قيم جميلة ولا إبداع متناسق مع أصل طبيعة البشر من الحاجة إلى التآلف والترابط في مجتمعات متكافلة.هذا الفزع اليومي لا يمكن تجاهله وسط ما يحاوله البعض من تغيير اتجاه بوصلة التفكير العام من حوله، لأنه يصيب جوهر القيم السامية ويتغلغل في روح التقاليد والموروثات محاولاً التشكيك في بعضها وازدراءها بحجة تطور العصر وأدواته التي مازال البعض يتمسك بها ولكن الخوف دائما يكون على الأجيال الناشئة التي تتشبع بما يقدم لها من قيم جديدة غريبة في كل شيء، وإن كان بعضها ضرورياً لا يمكن الاستغناء عنه. اللافت للنظر في هذه الحروب الصغيرة، أن منها ما هو موجه إلى الثقافة والإبداع، وبات واضحا تسلل الأفكار غير السوية، والمتطرفة فيما يقدم عبر الكتابات والفنون التي تغير مضمونها وأسلوبها وشكلها الذي يتلقاه العامة، ولا يمكننا أن نقول إنها موجة مؤقتة تعبر عن الحالة العامة التي يعيشها المواطن العربي، لأن هذه المضامين ترسخ في عقول وأذهان الأجيال التي تتآلف معها وتعتاد عليها، فلا تجد جمالا أو إبداعا إلا فيها، وهنا يكمن الخطر حين يتم الخروج عن القيم النبيلة والسامية في الثقافة أو إلغاؤها والتمسك بالقيم التي هي أقرب إلى التهريج وضياع الوقت لتصبح الحياة مزرية، إذا ما كانت الحروب الفتاكة مصاحبة لها.الخروج من شرنقة الضغوط اليومية سيحتاج إلى وقت غير منظور في القريب، وهذا يستدعي من بعض المبدعين والمثقفين الذين احتجبوا حين هبت العاصفة وآثروا الصمت أن يعودوا ويتقدموا صفوف المواجهة برؤية جديدة، وقيم متطورة تطابق حاجة العصر ويحتضنوا كل صاحب رؤية من الناشئة يتوسمون فيه خيرا لتقويم اعوجاج طرأ على الحالة الإبداعية والثقافية، وبهذا تكون الحروب الصغيرة قد واجهت فكرا مستنيرا قويما يتطلع إليه أصحاب الفضائل والمثل العليا، على أمل أن تخفف قرع طبول الحروب الكبيرة والصغيرة.* كاتب فلسطيني - كندا