في الأيام القليلة الفائتة تذكر العالم العربي ما اُصطلح على تسميته، على مدى العقود السبعة الماضية، بـ"النكبة"، بموازاة احتفال إسرائيل بالذكرى السبعين لإعلان دولتها.وحين نعاين ما جرى على هامش هذه "الذكرى" أو ذلك "الاحتفال"، سيثور سؤال يفرض نفسه بقوة: هل باتت أوضاعنا الراهنة في العالم العربي أبعد عن تشخيص "النكبة"، أم أكثر قرباً وتجسيداً لمعناه؟
ثمة سبعة ملامح للعالم العربي اليوم تجسد ملامح "نكبة" مكتملة الأركان، لكن تلك الملامح لم تصادف "يوماً فارقاً وحاسماً" يصلح لتكريس الذكرى لاحقاً، فضلاً عن أنها، للأسف، لم تبلغ ذروتها بعد، وحين يحدث ذلك، ستعجز القواميس ربما عن إيجاد وصف تكافئ دلالته المأساة على الأرض.الملمح الأول: تشخيص العدوتبدو "الأمة" أكثر من مرتبكة حين تجتهد لتشخيص "العدو"، وحين يحدث ذلك لأي أمة، فإنها تكون قد وقعت في خطر عظيم. بتشخيص "العدو"، يتبلور الهدف الأعلى، ومن ثم تتضح الآليات، التي من دونها لن تكون هناك رؤية للأمة، ولن يكون لديها "بيان مهمة"، ولا سجل موقتاً للمهام، أمة بلا رؤية، وبلا مهمة، وبلا موقف من العالم والتاريخ، ذلك أقسى ما يخافه محب، وأفضل ما يأمله كاره. إذا قرأت صحف الأمة، وطالعت شاشاتها، أو فحصت مناهج التربية الوطنية والقومية المقررة على صغارها، يجب أن تجد تشخيصاً واضحاً لما تراه ضد مصلحتها، وما تعتبره واجباً لا تستقيم الحياة من دون إنجازه، وحين يغيب ذلك، تصبح الأمة بلا هدف.اختلطت التشخيصات؛ بين الإرهاب، والتطرف، وإسرائيل، وإيران، والولايات المتحدة، والغرب، والجهل، والفقر، والمرض، وغيرها.الملمح الثاني: الحربرائحة الحرب تملأ الأرجاء؛ ونحن لا نعرف إذا كانت الحرب ستخدمنا أم ستقوض ما بقي لنا من أمن ومصالح. نحن لا نعرف في أي صف يجب أن نقف، نحن منقسمون بين من يؤيد ويطالب ويلح بضرورة إطلاق الصواريخ وتحرك البوارج، وبين من يعارض ويشجب ويدين، وبين من يقف حائراً لا يعرف ما الموقف الذي يجب أن يتخذه، والصف الذي يجب أن يكون فيه.الملمح الثالث: فراغ القيادةلا يوجد نظام إقليمي عربي، تلك عبارة حادة وحاسمة، وبقدر ما يمكن أن تتضمن من تفاصيل، فإن الشواهد كافة ستفضي إليها بكل تأكيد.لا نتحدث عن اختلافات وتباينات بين دول رئيسة وثانوية، ولا نستعرض عدم الاتفاق على السياسات التي يجب أن يتبعها الإقليم إزاء تطورات حاسمة تتدافع بلا هوادة يوماً بعد يوم، لكننا نشير إلى أن الدول العربية لا تنتظم في منظومة يمكنها أن تفكر وأن تقرر.لم يمر يوم على العالم العربي منذ إعلان الدولة الوطنية نعم فيه العرب بنظام إقليمي متماسك وقادر على قراءة الأحداث واتخاذ ما يلزم حيالها، بما يحقق الحد الأدنى من المصالح المتفق عليها، وبما يضمن لهذا النظام الاستدامة، وللدول التي يعبر عنها البقاء.لكن في تلك الأثناء لا يوجد لدينا نظام إقليمي عربي في الأساس، ولا تعبر الجامعة العربية إلا عن الحد الأدنى من التوافق بين حلفاء تربطهم مصالح مؤقتة، يظل حجمها وأثرها أقل كثيراً مما يتفاعل بينهم من تناقضات جوهرية وثانوية. وهنا تضيع الفرصة الضئيلة السانحة في تصليب اتجاه أو اتخاذ قرار.الملمح الرابع: تفكك الدولة الوطنيةبعد العراق، راحت ليبيا، ثم سورية، وأخيراً اليمن، والحبل على الجرار. لم تعد الدولة العربية الوطنية يقيناً كما كانت على مدى العقود السبعة الفائتة، بل هي في اختبار للقدرة على الوفاء بمتطلبات البقاء.وفي غيبة النظام الإقليمي العربي، لا يُنتظر من الفاعلين الإقليميين تطوير خطط لاستعادة الدول التي تفككت، بقدر ما يُستدعى الأمل في عدم انزلاق دول أخرى إلى الفوضى.لقد ظهر لنا بوضوح أن تلك البيارق، والأناشيد، والصحف والإذاعات الرسمية، وقصور الرئاسة، وبعثات التمثيل الدبلوماسي، لم تكن أكثر من ادعاءات، لا تسندها وقائع، وحين هبت العواصف، تهاوت مع أول اختبار.الملمح الخامس: تبدل نسق القيملم تعد الرموز محلية أو قومية، لا تربطنا أنساق من القيم المتفق عليها بما يكفي للوفاء باستحقاقات مصطلح "الأمة".نشجع الفرق العالمية، ونرتدي "البراندات"، ونتعارك في "السوشيال ميديا"، ولا نحفل بقيمة أو معيار، ولا نبقي رمزاً من دون استباحة وتجريح.لم تعد اللغة محل اعتبار، والأنكى من ذلك أن التوسل باللغة الأجنبية بات علامة من علامات التحضر، ومع كل ما ندعيه من مظاهر تدين شكلي، لم نبق لمعنى الدين وقاراً، وبعد تطويع التأويل الديني لمقتضيات المصالح السياسية الضيقة، بات الأمر موضوع اقتتال.الملمح السادس: الديمقراطية لا تصلح لناليس هذا ما يقوله منظرو السياسة المحافظون في العالم الغربي عن منطقتنا فقط، ولا هو ما يستند إليه بعض الحكام لإعفاء أنفسهم من استحقاقات التنمية السياسية، واعتبارات المشاركة العمومية، وبناء جسور التفاهم الوطني فقط، لكنه بات أيضاً، مع الأسف، موقفاً للاتجاه الرئيس بين نخب الأمة وعوامها.هذا ما يمكن إدراكه، بعد استبعاد تأثير أقاويل الاستبراء من مديح الدكتاتورية وغسل الأيدي من الامتثال لدعاوى الشمولية.الملمح السابع: الفقررغم ما تمتلكه "الأمة" من ثروات، فإنها أظهرت خطلاً مزرياً في توظيفها في خدمة الإنسان العربي الفرد.نحن نعلم حجم تلك الثروات، ونعلم كيف تم التصرف فيها، لكننا لا نعرف طريقاً لاستعادة ما تم نهبه، أو الاتفاق على طريقة لتوظيفها بما يخرجنا من دوائر الفقر والعوز. لا تجد تلك الشعوب الفقيرة فرصة لالتقاط أنفاسها أبداً، فهي مطحونة للوفاء بمتطلبات حياة طاحنة، آخذة في التفاقم والاتساع، وفي ظل هذا الانشغال اللاهث بتوفير ما يقيم الأود، لا يبقى مجال للحديث عن المحاسبة والمساءلة والمشاركة، أو تدقيق القرارات، وترشيد الحكم. سيكون أمام العالم العربي طريقان لا ثالث لهما؛ إما اليقظة والانتباه، والإقرار بـ"النكبة" المعاصرة، والعمل على الخروج من أسرها، وإما الاستمرار في ملاحقة الأحداث، وصولاً لذروة "نكبة"، لن يكون بعدها مجال للتذكر أو الاعتبار.* كاتب مصري
مقالات
سبعة ملامح لنكبتنا الراهنة
13-05-2018