«نفضوا ايدكم»
"نفضوا أيدكم" إذا كان هناك من يتصور أن السلطة بكل صورها ومؤسساتها ستعدل، ولو قليلاً، من مواقفها القمعية في قضايا حرية الرأي والتعبير، فلم يكن غريباً موقف الحكومة الذي جاء بمانشيت الجريدة أمس بعنوان "الحكومة والنيابة تسبحان عكس تيار القضاء" وأكدتا أن الإساءة اللفظية والكتابية عمل عدائي، خلافاً لرأي "الأعلى للقضاء"... الغريب وغير المتصور من هذه السلطة أن تؤيد التعديل الذي تقدم به عدد من النواب، والذي يحل الغرامة الباهظة على "نشر أخبار غير صحيحة عن رؤساء الدول الشقيقة والصديقة..." (ويا الله تزيد النعمة على الدول الشقيقة والصديقة)... وفي حالة العود خلال خمس سنوات "يعاقب بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر"... يعني مشروع النواب يأتي على طريقة "العوض ولا القطيعة" مع قوانين القمع، لكن حتى هذا العوض المتواضع جداً غير مقبول عند حكومة "البخاصة".فالتغريدة البسيطة مثلاً التي تنتقد دولة ما تعتبر عملاً عدائياً متى كان من شأنها "... تعريض الكويت لخطر أن تعلن تلك الدولة الحرب عليها أو تقطع العلاقات السياسية معها..." على نحو ما جاء في أحد الأحكام القضائية، تصوروا أن تغريدة أو أي تعبير عن رأي في وسيلة تواصل اجتماعي يمكن أن يستثير هذه الدولة الأجنبية وتعتبره بالتالي عملاً عدائياً وتعلن الحرب ضد الكويت...! يا ترى هل تستحق تلك الدول الأجنبية المفترضة أن يكون للكويت أي علاقة معها متى كانت ثلاث أو أربع كلمات كافية لتعلن الحرب ضد الكويت...؟! وأي مفهوم لسيادة الدولة نتحدث عنه الآن متى أصبحت هذه السيادة رهينة بمزاج تفسيرات تلك الدول الأجنبية التي تعتبر كلمات تأتي بشكل تغريدات غيرها عملاً عدائياً يهز كيانها؟!
قانون الجزاء والقوانين التي تحيل عليه، مثل قانون المطبوعات وغيره في قضايا أمن الدولة، ليست بحاجة إلى تعديل استرضائي للسلطة التي تخشى العين الحمراء من الدول "الصديقة والشقيقة"، يمسك العصا من منتصفها مثل الذي قدمه هؤلاء النواب، ولو أنهم يستحقون الشكر على مجرد المحاولة المتواضعة، مثل تلك المواد الجزائية بعبارتها المطاطية وغير القابلة للضبط والتفسير العقليين التي تخيط أفواه البشر وتدجنهم وتحيلهم إلى قطيع يسير على هدى عصا الراعي، لا ينفع معها تشذيب ولا تهذيب، بل يراد لها نسف من أول حرف بها إلى نهاياتها، وتعاد صياغتها من البداية، وهذا لا تجرؤ عليه السلطة، ويستحيل، من ناحية أخرى، أن يقدم عليه مجلس نيابي بهذه التشكيلة التي فرضتها السلطة بداية، فلا ننسى بهذه المناسبة أن مجالس نيابية سابقة كان يفترض أن تكون معارضة لم تتأخر في تقديم مشروع ينص على إعدام المسيء!وننتهي آخر الأمر إلى أن قضية حرية الضمير ليست محصورة في سلطة توارثية تكرر أشخاصها وتعيد إنتاجهم في مؤسساتها ومجالس نيابية تابعة لها، وإنما هي قضية مؤسسات مجتمع مدني يتم تغييبها ومحاصرتها وتهميشها، وهي قضية وعي عام بالحريات الإنسانية وأهمها حرية الضمير التي لا تتجزأ. وحتى يأتي اليوم الموعود لدولة الحريات، لا نملك غير إظهار التعاطف لعشرات الشباب المساكين القابعين في السجن أو الذين "طفشوا" خارج حدود الدولة، هرباً من بلد الإنسانية وقوانينها ومؤسساتها المستقلة، لمجرد أنهم سهوا ونسوا أنفسهم في كلمات تائهة بخطوط طيران الإعلام المرعبة.