تصطفُ رواية «فونتمارا» للكاتب الإيطالي إيجنازيو سيليوني الصادرة عن دار «الرافدين» ببيروت ضمن الأعمال المنضوية تحت مظلة الأدب الثوري. يتناولُ الكاتبُ حياة الفلاحين البسطاء في قرية فونتمارا وما يكابدونه من شظف العيش في ظل السلطة الجائرة التي تُزيدُ الضرائب على مواطنيها ولا توفر وسيلة إلا تستخدمها لقهرهم واستغلالهم. ومع ظهور الشخصيات التي تتناثر على مساحة الرواية يتبينُ غرضُ المؤلف من إماطة اللثام عن فئة مكونة من المثقفين والمهنيين المُتعاونين مع رجال الدولة في عملية تضليل الجماهير ولولا هؤلاء لما تغولت السلطةُ وتوحشت.

Ad

العقوبة

تفتتحُ الرواية باسترجاع تلك اللحظة التي حدث فيها ما كان مؤشراً إلى تبدل حياة الفلاحين، عندما انقطع النور الكهربائي وحلّ ضوء القمر مكان الإضاءة الكهربائية ودامت هذه الحالة، إذ يتعجب السكان من هذا الأمر. وهنا يلمحُ إلى بداية ظهور الكهرباء والدخائن في القرية، من ثُمَّ يتوقع أن يُحَرمَ الفلاحون مما يعدُ امتيازاً بالنسبة إليهم نتيجة لتقلبات على الصعيد السياسي وسقوط حكومة وقيام غيرها. وهذه الحالة قلما تكون لها الفوائد للكادحين الذين تنوء بهم وطأة حياة مُضنية، فيتحملون تكاليف الحروب وتصاعد الضرائب على الخدمات. أضفْ إلى ذلك أن الراوي يُشيرُ إلى ترصد موظفي الحكومة كلام المواطنين وإدانتهم بناء على تفسيرات مُجهزة، إذ يصيحُ هون بللينو بوجه زومبا وسوركانيرا عندما يتحدث الاثنان عن الحلم الذي رآه الأول وما سمعه من البابا بأنّه ساق لهم سحابة من القمل ليملؤوا بها فراغاتهم، وذاك ما يبعدهم عن الإلحاد والكفر. وما من موظف إلا واعتبر الكلام استهزاءً بالحكومة.

ويمضي أعوان الحكومة في سياستهم الاستغلالية أبعد بسلب مصدر رزق أهالي القرية وتصريف مياه الترعة بما يخدم مشاريع ما يُسمى بالمقاول من خلال المستندات المُقنعة بالقانون. يستنكر الفلاحون من جانبهم هذا الاحتيال ساخطين من القانون الذي يتمترسُ وراءه المُحتالون لاضطهاد الفقراء. يُشار أنَّ هذا العمل يحتشدُ بشخصيات تبدو للوهلة الأولى نمطية وجامدة لكن مع تعاقب الأحداث تتخذ مسارات ومستويات مُختلفة، وشأن جلّ الروايات المكتوبة بإيحاء ثوري توجدُ شخصية القدوة والمُضحي في «فوانتمارا»، وهو براردو الذي من الصعب الحكم عليه أو توقع َمُبادراته.

الصراع

يعتمدُ الكاتبُ على تصوير الصراع القائم بين أهل فونتمارا والسلطة الممثلة بشخصية المُقاول لإبانة البؤس والمُعاناة المُتفاقمة بفعل المشروع الذي يدمرُ ما أعطتهم الطبيعةُ لسد الاحتياجات الحياتية، إذ تتضاعفُ المخاوفُ من محاولة إقامة الفيلا وتحويلُ ملكية الترعة إلى المقاول وحفر مجرى آخر، ما ينقص نسبة الماء الذي تحتاج إليه الزراعة. من ثم، يفقدُ أهالي القرية ما يقيمُ أودهم، وعندما تحتجُ الجماهيرُ على هذا المشروع يأتي من يُعدُ مسانداً للمحتجين في الظاهر لكنه في حقيقته متواطئ مع السلطة، ويتجسد هذا النفاق في شخصية المحامي شيركو ستانزا إذ يقترحُ الأخيرُ أن يكونَ حق التصرف بالترعة مكفولاً لبودستا لمدة «عشر عظيمات» من دون أن يفهم أحد دلالة هذه العبارة الفضفاضة.

وأخذ سكان فونتمارا بشرح تلك المفردة، وتباينت التقديرات حولها بين عشر سنوات أو مئة سنة أو عشرة أشهر، كما تصورت ماريتا سوكارينرا. بهذا نجح سيليوني في إبراز المفاعيل السلبية للعبة الألفاظ وهي أداة في عملية الخداع السياسي.

يرافق ذلك إعلان بودستا منع المناقشات في الحانة التي يجتمعُ فيها أهل القرية. اللافت أن الكاتب يتتبعُ ما يطفوُ على السطح من مظاهر تشي بسيادة الهمج أو ما يسميه ماركس بروليتاريا الرثة، وهم أفراد يخدمون كل من يعطي الأوامر، يتسكعون في الشوارع، إذ يُعَبئِهم المتنفذون لمآرابهم الخاصة ويؤجرون طاقاتهم دعماً للسلطة الهمجية. فضلاً عن ذلك يختارُ الكاتبُ أسلوباً كوميدياً لبيان مناورات السلطة وإمعانها في مسخ القيم وهذا ما تراه في مشهد استجواب الرجل البدين مواطني فوانتمارا عن انتماءاتهم السياسية وطرح صيغة {يعيش من؟}، وبما أن المستجوبين غير مهتمين بشؤون السياسة ولم يدركوا ضرورة تمجيد الحكومة الجديدة، كانت إجاباتهم عفوية، وحين يأتي دور أناشليتو ما يلبث أن يقول «تعيشُ ماري»، وهي زوجته ويُتهم على إثر ذلك بأنَّه مشبوه.

الصحوة

تدهور المستوى المعيشي في فوانتمارا وتوجس أهلها من تناقص الموارد يحملان البعض إلى البحث عن فرص العمل في المدن حيثُ يُصاحبُ ابن الراوي براردو في رحلته إلى المدينة التي شهدت تطوراً كبيراً في شتى المجالات، ويمكنُ لمن يقتنع بأن يصبحُ أداة بيد السلطة امتلاك ثروة طائلة، الأمر الذي يوضح الفرق الكبير بين نمط حياة الفلاح وما ينعم به المضاربون في المدن من البذخ. يغذي ذلك الوعي الثوري لدى براردو الذي خاب أمله بالهجرة إلى أميركا ولم يعد يملك شيئاً، لا الأراضي ولا الأموال، لذلك فهو أول من يقع تحت تأثير ما يحكيه بيينو جوريانو العائد من روما حول ما يسود في المدينة من سلوكيات سياسية غريبة إلى جانب توفير فرص العمل. وبدلاً من أن يكتسب براردو الأموال في المدن ليعودَ إلى فونتمارا ويتزوج إليفرا، كما خطط، تنحو حياته منحى آخر ويتحول إلى بطلٍ ثوري. يُذكر أن آراء براردو تنمُ عن وعي ناضج وتلمس لديه الإيمان بضرورة تعقل الحراك الجماهيري، وهو يقول لصديقه «ألست ترى أن الشجاعة ليست شيئاً عندما لا تعرف استعمالها». ويتلخص مما يقولهُ الرجل القادم من أفيزانو أن بهرجة المدن تخفي فقراً مدقعاً وليس كل من يقيم بالمدن مُستغِلاً.

تنتهي الرواية بإعلان الغضب والثورة في كثير من القرى والبلدات، من بينها فونتمارا. وما يجبُ الإشارة إليه هو براعة المؤلف في استبطان ما يمورُ في أعماق براردو من مشاعر وأسئلة قبل إعدامه، إذ يرجح لديه كفة المبدأ لأن قروناً تمرُ قبل أن تواتي فونتمارا فرصة أخرى وما أراد أن ينقلب خائناً.