حزب العمال وفخ العنصرية
مع تحول الحكومات الإسرائيلية إلى النزعة الوطنية العسكرية، أصبح كارهو الأجانب والشوفينيون في الغرب من المؤيدين المتحمسين لإسرائيل، ولهذا السبب بات بوسع المحافظين البريطانيين، الذين ربما كانوا يحملون ذات يوم مشاعر أقل من ودية للشعب اليهودي، أن يعلنوا بضمير سليم الآن إدانتهم لسياسات حزب العمال بوصفها معادية للسامية.
عندما يوجه اليمين تهمة معاداة السامية إلى اليسار فمن المؤكد أن شيئا بالغ الغرابة يجري هنا. كانت كراهية اليهود مرضا يصيب اليمين تاريخيا، ولكن في بريطانيا يُبدي الساسة المحافظون والصحف اليمينية مثل ديلي تلغراف قدرا كبيراً من الامتعاض إزاء معاداة السامية المزعومة من قِبَل بعض أعضاء البرلمان من حزب العمال، صحيح أن المحافظين أنفسهم ليسوا محصنين ضد كراهية الأجانب، وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالمسلمين أو حتى الأوروبيين، لكن هذا النفاق ليس بلا سبب، ويرتبط هذا السبب بشكل مباشر ووثيق بتصورات متعلقة بإسرائيل.غالبا ما تكون معاداة السامية على اليسار شكلا من أشكال الحماسة المفرطة في معارضة السياسات الإسرائيلية في التعامل مع الفلسطينيين، فعندما يتحدث منتقدو الحكومة الإسرائيلية عن "الصهاينة" بدلا من الإسرائيليين، يصبح بوسعك أن تتأكد إلى حد معقول من كونهم متعصبين، ويُعَد رئيس بلدية لندن السابق كين ليفنغستون مثالا واضحا على ذلك، إذ لم يكن تأكيده على أن هتلر كان نسخة بدائية من الصهاينة محاولة فاشلة لتوضيح نقطة تاريخية استفزازية بقدر ما كان طعنا متعمدا للتشكيك في مشروعية وجود إسرائيل ذاته.عندما يفشل زعيم حزب العمل جيريمي كوربين، وهو ذاته مناهض شرس للصهيونية، في إدراك الخطأ الكبير الذي تمثله لوحة جدارية في لندن تصور عصبة من الأثرياء النافذين الأشرار معقوفي الأنوف، وهم يمارسون لعبة "مونوبولي" على الظهور العارية لعمال كادحين، فربما يكون المرء معذورا إذا رأى ارتباطا بين امتداح كوربين لحماس ونمط آخر أعتق طرازا من معاداة السامية.
ربما لا يخلو هذا الرأي من ظلم، فربما كان كوربين مجرد أحمق متبلد الحس، ولكن ما من شك في أن معاداة الرأسمالية المتعصبة كانت تنحرف في بعض الأحيان لتتحول إلى معاداة السامية على اليسار، وكانت هذه هي الحال في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما كان جورج سوريل والنقابيون الثوريون يرون اليهود من منظور الشخص نفسه الذي رسم اللوحة الجدارية في لندن، وهي أيضا حال الأشخاص الذين يعتبرون جورج سوروس العدو الأكثر دناءة للجماهير الكادحة اليوم.عندما نتحدث عن اليسار ينبغي لنا أن نميز، ففي الولايات المتحدة يُطلَق على أي ديمقراطي يرى أن الحكومة لابد أن تمد يد العون لمن هم أسوأ حالا وصف اليساري عادة، ولكن في أوروبا وأماكن أخرى لم يتبق الكثير من الأيديولوجية الطبقية التي كانت في الماضي تُربَط بالاشتراكية، ولم يعد الفارق بسيطا بين الديمقراطيين الاجتماعيين المعتدلين والتيار السائد بين المحافظين. يمثل كوربين وليفنغستون اليسار الطائفي المتشدد، المدفوع إلى حد كبير بعداء شرس لما يعتبر إمبريالية غربية (أو "استعمار جديد")، وعنصرية ضد أصحاب البشرة غير البيضاء.والدولتان اللتان تمثلان أكبر قدر من الوضوح شرور الاستعمار الجديد والعنصرية في نظر اليسار الطائفي هما إسرائيل والولايات المتحدة، وبسبب الدعم القوي الذي تكرسه الولايات المتحدة لإسرائيل، وخصوصا الآن بعد أن أعطى الرئيس دونالد ترامب حكومة بنيامين نتنياهو الرخصة للقيام بكل ما تشاء، يُنظَر إلى القمع الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين على أنه مشروع مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل، كما يُنظَر إلى واشنطن والقدس باعتبارهما عاصمتين توءمتين للصهيونية. (ربما يضم بعض المراقبين إلى هاتين العاصمتين نيويورك وهوليود بسبب "المال اليهودي").الحق أن أسباب انتقاد السياسات الإسرائيلية، والحكومات الأميركية التي تساندها مساندة عمياء، وفيرة، وليس سرا أن العديد من الإسرائيليين، بمن في ذلك بعض الأعضاء البارزين في حكومة نتنياهو، يحملون وجهات نظر إزاء العرب يمكن وصفها بإنصاف أنها عنصرية. (في ضوء تصريحاته الأخيرة عن الهولوكوست، ربما يمكننا أن نقول الشيء نفسه عن محمود عباس، زعيم منظمة التحرير الفلسطينية). ومن المؤكد أن وصف ترامب لأصحاب البشرة غير البيضاء ليس ودودا بالقدر نفسه.لكن الانتقاد ليس كمثل النظر إلى الولايات المتحدة وإسرائيل بوصفهما التهديد الأكثر خبثا وشرا للبشرية. يرى بعض المتعصبين على اليسار أن الصهيونية والإمبريالية الأميركية من الشر والوضاعة إلى الحد الذي يجعل من أعدائهما المجاهرين لهما بالعداء أصدقاء لليسار، وهذا هو السبب وراء سعادة بعض المراقبين بإيجاد الأعذار لتصرفات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل حتى قبول دعايته بما تحمله من قيمة ظاهرية. ما لا يدركه ليفنغستون وغيره ربما هو مدى قرب الصورة التي يرسمونها للشر الأميركي الصهيوني من المجازات اليمينية المتطرفة المعادية للسامية في أوائل القرن العشرين، فضلا عن ذلك كانت الولايات المتحدة، وبريطانيا بدرجة ما، على ارتباط بما يسمى "المال اليهودي"، وقد افترض الناس أن "القوة اليهودية" استُغِلَّت بنجاح من جانب واشنطن ونيويورك، على سبيل المثال استُخدِم اسم روتشيلد بالطريقة نفسها التي يستخدم بها اسم جورج سوروس الآن.الواقع أن تولي اليسار الطائفي قيادة حزب العمال ظاهرة حديثة، وكان كوربين دائما شخصية هامشية، ورجلا غريب الأطوار نادرا ما يُسمَع اسمه خارج دائرة ناخبيه في شمال لندن، ولم يكن صعوده إلى زعامة الحزب أقل حماقة من استيلاء ترامب على الحزب الجمهوري، بيد أنه أمر منطقي من الجانب الأيديولوجي.الواقع أن حزب العمال، مثله كمثل الأحزاب اليسارية في أماكن أخرى، كان ذات يوم يمثل مصالح ما يُعرَف بالطبقة العاملة، وكان يدعم النقابات العمالية القوية، ويفضل ملكية الدولة للمؤسسات الوطنية الأساسية مثل السكك الحديدية، والنظام البريدي، وكان تأميم الرعاية الصحية والتعليم العام من المخاوف الحيوية، وكان العديد من اليساريين أمميين أيضا، ففي العقود الأولى من حياة دولة إسرائيل، عندما كان اليسار لا يزال في السلطة هناك، كان قسم كبير من حزب العمال متعاطفا مع الصهيونية.ثم بدأ هذا يتغير في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فلم تصبح إسرائيل قوة احتلال تحكم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في حربين فحسب، بل بدأت الأيديولوجية اليسارية في الغرب تتحول من المخاوف الطبقية إلى مكافحة الإمبريالية والعنصرية، ولأن العديد من اليساريين قدموا أنفسهم بوصفهم محاربين ضد العنصرية، فلم يكن بوسعهم أن يروا أنفسهم كمعادين للسامية، مهما بلغ مدى حماستهم في معارضة "الصهاينة"، والواقع أن آراءهم حول الصهيونية أكدت هويتهم كمعادين للعنصرية.من ناحية أخرى حدث تحول مواز على اليمين، في إسرائيل، وأوروبا، والولايات المتحدة، ومع تحول الحكومات الإسرائيلية إلى النزعة الوطنية العسكرية، أصبح كارهو الأجانب والشوفينيون في الغرب من المؤيدين المتحمسين لإسرائيل، ولهذا السبب بات بوسع المحافظين البريطانيين، الذين ربما كانوا يحملون ذات يوم مشاعر أقل من ودية للشعب اليهودي، أن يعلنوا بضمير سليم الآن إدانتهم لسياسات حزب العمال بوصفها معادية للسامية، فهم في نهاية المطاف، يحبون إسرائيل، ربما بدرجة أكثر مما ينبغي.* إيان بوروما* رئيس تحرير مجلة نيويورك لاستعراض الكتب، وهو مؤلف كتاب "العام صِفر: تاريخ من 1945".«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»